تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


«المــوت بوعـــي هـــو الأكثــر حقيقـــة وشــــرفاً»

ثقافة
الثلاثاء 26-1-2016
هفاف ميهوب

«لاحياة بغيرِ موتٍ، والموتُ في سبيلِ الحياة، حياة أخرى.. الموت بوعي يبقى الأكثر حقيقة وشرفاً..

إنَّ النصرَ يجب أن يُنتزع ولو بالظفرِ والناب. هذه ليست حرب جنود فقط.. مضى زمن حرب الجنود. القادة في المقدمة ثم لا تراجع.. الصمود حتى آخر رصاصة، وآخر نسمةٍ من الحياة. لينفتح الجحيم تحت الأرجل وفوق الرؤوس، فلن تكون نارهُ إلا بعض تلك النار المضطرمة في الصدور»..‏‏

هذه الكلمات، هي وبكلِّ حبٍّ، للتذكير بمن أحيا البحر في أعماله.. بمن صارعه إلى أن غلبهُ، وبمغامراته ورحلاته وإبداعاته.. الإبداعات التي دوّن فيها، روائَعَ واقعٍ جسدهُ بالغَ الجرأة في خوضِ المغامرة.‏‏

إنه «حنا مينه».. الأديب الذي ومثلما صارع البحر صارع الحياة.. صارعها لأن فقراءها, هم من حمّله مسؤوليةَ قهر كلّ مافيها من جهلٍ وفقرٍ وبؤسٍ وظلمٍ واعتداءات..‏‏

نعم «حنا مينه» الأديب الذي أعلنَ ومّذ حُمِّلَ هذه المسؤولية، بأنهُ «معتادٌ على رؤية الدم» القصة التي كتبها عن غير قصدٍ، وعندما كان حلاقاً وسياسياً في آنٍ.. حلاق على مقربةٍ من ثكنةٍ في دكانٍ قرب الجامع في حيِّ القلعة باللاذقية، وسياسياً منهمكاً في النضال لتحقيق هدفين، الجلاء والعدالة الاجتماعية.‏‏

لقد كانت أول قصة كتبها في ذلك الدكان الصغير ذي الباب العتيق المهترئ، حيث كان يقرأ ويكتب العرائض والمكاتيب، ويناقش في القضايا الساخنة، ودون أن يخطر له أنه سيصبح كاتباً لطالما، اعتقد بأن كل ما يكتبهُ، كان مجرد وصفٍ للأوضاع التي كانت سائدة وقاسية.‏‏

بيدَ أن الدافع الأكبر الذي شجعه على كتابة هذه القصة، هو ما شهده ذات معركة اشتعل فيها الهدير.. هدير الغضب السوري، ضد المحتل الفرنسي. الهدير الذي انتهى باستماتةِ الفقراء الشرفاء في الدفاع عن وطنهم، وبكلِّ ما أوتى لهم من أدواتِ القتال التي التقطتها أيديهم.. هدير الغضب الذي وصفه «مينه» بعد أن شاهد وشارك بما جعل منه «متعوّد على رؤية الدم»:‏‏

«من أقصى الشارعِ هرعَ الناس وهم يحملون بنادقهم وفؤوسهم ورفوشهم وعصيِّهم، وانشقَّت الأرضُ المُنكمشة عن أرواحٍ من نار، وثارَ في كلِّ مكانٍ إعصارُ الشجاعة المجنون.. أُغلقت الحوانيتُ وبقي بعضها مفتوحاً، وقُطعت الطرقات وأقيمت المتاريس، وأرعدت المدافع وانهمرَ الرصاص، وفي وسطِ الشارع، دارت المعارك وسقطت جثثُ المحتلين شوهاءَ ممزقة الأوصال، واحمرَّ قرصُ الشمسِ وولى هارباً وراءَ الأفقِ البعيد..‏‏

قفز الرجالُ من وراء الجثث وهم يضربون ويضربون بقوة، بعنف، بإيمان في النصرِ الكبير.. عاد جيراني إلى حوانيتهم، وبعضهم لم يرجعوا. لكننا كنا نراهم في خيالِ الفرحة أحياء، أحبَّاء.. نذكرهم وقاماتهم تكبرُ وتكبر في فسحة رؤيانا، حتى تستحيل إلى قاماتِ عمالقةٍ من الإغريق».‏‏

لأجلِ كل هذا، بات «مينه» لا يخشى الدم ولا يهاب الموت. الدم الذي اعتاد عليه منذ بداية حياته، والموت الذي قهرهُ بإبداعاته.. الموت الذي اعتبره الأشرف إن كان حباً بالشهادة.. الشهادة في سبيلِ الوطن الذي عَشِقه حد العبادة.. عشقهُ، حدَّ تفرُّسهِ في وجوهِ شجعانه وإعلانه: «لقد كان دأبي، أن أنظر في وجوهِ هؤلاء الشجعان. وأتساءل: كيف يعيشون؟ وبماذا يفكرون؟ وكيف لايخافون؟.. رغم كلِّ أسئلتي، لم أخرج بنتيجة.. إنهم ببساطة، فقراء لكنَّ أرواحهم من نار.. إنهم رجالٌ من بلدنا، كما قالوا».‏‏

أعلن هذا في «متعود على رؤية الدم» أما في «المرصد» الرواية التي حمَّلها ما شهدَ عليه أو سمعه من أبطال حربِ تشرين التحريرية، فقد وصفَ مشاعر رجالنا.. انتكاساتهم.. غضبهم.. لحظاتهم.. تداعياتهم.. بطولاتهم.. وصفَ كل هذا دون أن ينسى أن يوجّه التحية إلى شهدائهم، وممن خاطبهم: «إنني أوجّه تحية حارة إلى الشهداء، الذين سقطوا في المعارك. هؤلاء الذين اشتروا بدمائهم كلّ مترٍ من أرضنا.. لقد بذلوا ما هو غالٍ في سبيل ما هو أغلى-الوطن. لقد شهدت الشمس في سمائنا الصافية، الواسعة، مجاري دمائهم على الأرض»..‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية