|
ثقافة وهذا التشابه بين المرأة، من حيث إنها رمز للحياة في مفهومها البيولوجي والعاطفي والقيمي، والشجرة في مفهومها البيئي كمصدر للثمر والفيء والمطر وثروات أخرى، دفع الكثير من الأدباء والشعراء إلى الإشارة إلى هذا التماهي بين هذين المخلوقين الأنثويين الرائعين والتغني به. ومن الطبيعي أن تكون «الأنثى» أمهر في التعبير عن علاقة التماهي هذه، وخاصة في مجال الشعر، وتأكيداً على رأينا هذا اخترنا قصيدتين معروفتين لشاعرتين عالميتين: الأولى هي الأسترالية جوديث رايت (1915 -؟)، والثانية هي الأميركية إدناسان فنسان ميلاي (1892-1950)، وكان اختيارنا لهما أجنبيتين لكي نبتعد عن الحساسية التي يمكن أن يسببها نشر قصيدة تحوي بعض المواقف والأوصاف الحميمية لشاعرة عربية دون أخرى! وقد اخترنا هاتين الشاعرتين بالذات لأنهما غير معروفتين لدى الغالبية العظمى من القراء العرب. آ- جوديث رايت: يجمع النقاد على أن جوديث رايت تزاوج في شعرها بين الشعر الأسترالي الحديث والشعر الأنجلو - ساكسوني الكلاسيكي، ولذا جاءت أبياتها الشعرية مكثفة يتبين فيها بوضوح ذكاؤها اللماح وحيويتها المتدفقة. وقد استخدمت جوديث رايت الرمزية في النصف الأخير من حياتها الشعرية، وكرست في قصائدها «الشجرة» كرمز للعطاء والحياة المتجددة، ويظهر ذلك بشكل خاص في ديوانها «امرأة لرجل woman to man» الذي اخترنا منه هذه القطعة الشعرية في وصف لقاء حميمي بينها وبين زوجها في كلمات مهذبة ومبطنة لا تخدش الحياء، وكيف أن هذا اللقاء هو سر تجدد الحياة البشرية وهو يشبه كامل الشبه عملية زراعة شجرة في الحياة النباتية، ولذلك جعلت الشاعرة عنوان هذه القصيدة «الرجل خلال الشجرة the man beneath the tree» وهاهي الترجمة العربية لهذه القصيدة: 1- ذلك البذّار الكفيف خلال ظلمة الليل وتلك البويضة التي لا شكل لها والتي كنت أحتفظ بها في جسدي عملا معاً من أجل يوم الولادة عملا بصمت ومهارة وعلى عمق لا يمكن للعين أن تراه! 2- لا يمكن لطفل أن يشبه وجه هذا الطفل وليس له اسم (بعد) لكي نناديه به ومع هذا فأنت وأنا نعرفه جيداً إنه طريدتنا وصيادنا في آن واحد وها هو ثالثنا في كل مرة نتعانق بها! 3- إنه القوة التي يعرفها ذراعاك وقطعة اللحم التي يعرفها صدري والحدقة الزجاجية في عينينا إنه تلك الشجرة من الدم التي تنمو وتلك الوردة التي تتفتح. ومن هذه القصيدة يبدو واضحاً تشبيه عملية الولادة البشرية بالولادة النباتية، ودور الشجرة الأم في هذه الولادة وفي بقاء الوجود في هذا العالم. ب- إدناسان فنسان ميلاي: سيدة الشاعرات الأميركيات في النصف الأول من القرن العشرين، ولا يزال الإقبال على قراءة دواوينها يتزايد حتى اليوم. وشعرها شعر رومانسي بامتياز، مليء بالعاطفة، ويضج بالصور الشعرية والاستعارات الناعمة المبتكرة، وهو في أغلبه يتحدث عن الحب، وعن العلاقة بين الرجل والمرأة في إطار مؤسسة الزواج أو خارج هذه المؤسسة، إذ إن الحب في رأيها «هو الخيار الوحيد الذي ينجي الإنسان من التفكير بالموت، لأنه دون الحب لا يعود هناك من صديق للإنسان إلا الموت». وكما أن الشجرة تشبه المرأة في ولادتها وطفولتها وشبابها كما يظهر من قصيدة جوديث رايت السابقة الذكر فإنها تشبهها أيضاً في كهولتها وشيخوختها، كما يظهر من هذه القصيدة التي كتبتها الشاعرة الأميركية إدناسان فنسان ميلاي بعد اجتيازها (سن اليأس) وشعورها بأن أصدقاءها وعشاقها القدامى بدؤوا ينصرفون عنها واحداً بعد الآخر. وتزداد الذكريات حدة وإيلاماً لدى رؤية بعض الوجوه أو الأمكنة أو الظروف، كما هو حال شاعرتنا إدنا هنا عندما سمعت في ليلة ماطرة صوت المطر الوابل وهو يصطدم بزجاج نافذتها المغلقة فذكرها هذا بدقات عشاقها القدامى الذين كانوا يطرقون على باب ونوافذ بيتها طالبين الإذن بالدخول! ولكنها تفيق من حلمها هذا بعد هنيهة وتعود إلى واقعها المؤلم كامرأة خمسينية وحيدة، وحيدة مثل شجرة في الخريف، تعرت أفنانها من الورق، ولم يعد يقيها شيء من البرد القارس، برد الوحدة الموحشة الذي لا يعادله أي برد آخر والذي يزداد تأثيره على المرأة كلما تقدمت بالعمر. وعنوان هذه القصيدة التي نظمتها إدناسان فنسان ميلاي هو «السوناتا الثانية والأربعون» وقد ترجمناها إلى العربية ضمن الصيغة التالية: ترى أية شفاه عطشى أطبقت على شفتي في سالفات الأيام وكيف تم هذا ومتى؟ وأية سواعد قوية توسدها رأسي منذ المساء وحتى الصباح؟ لقد نسيت الآن ولكن المطر هذه الليلة زاخر بالأشباح وهو ينقر على زجازج نافذتي ويئن وكأنه ينتظر مني الجواب إن أعماق قلبي مفعمة بالأسى على أولئك الشبان الذين نسيتهم والذي لم يعودوا يزورون مخدعي في هذه الأيام عند منتصف الليالي وهم يئنون حباً! وها أنا أقف اليوم وحيدة كما الشجرة المنفردة التي تقاوم برد الشتاء بعد أن انصرفت عنها الطيور الأليفة واحداً بعد آخر! إن هذه الشجرة تعلم اليوم أن هذه الطيور قد هجرت أغصانها دون رجعة وتركتها وحيدة موحشة ليس بوسعي اليوم أن أتذكر أسماء كل أولئك الأحباب الذين دخلوا في حياتي ذات يوم ثم خرجوا منها بعد ذلك ولكني أعلم أن الصيف الذي كان يضج في أعماقي بالغناء طيلة ردح من الزمن قد ولى وراح وتوقف عن الغناء إلى الأبد بعد أن خلف لي أطياف هناء «لن تعود»! ويظهر من هذه القصيدة السوناتا أن الشاعرة إدنا سان فنسان لم تكن سعيدة في أواخر أيام حياتها (ماتت في سن الثانية والخمسين) ولكنها كانت تتألم بكبرياء وترفع، وتسترجع ذكريات الماضي الجميل للتخفيف من وحشة الأيام الأخيرة وهي تصف لنا بذاتها شعورها هذا في أربعة أبيات أخرى بعنوان «شمعة حياتي» حيث تقول: «إن شمعة حياتي تشتعل من طرفيها معاً ولن يدوم اشتعالها حتى نهاية الليل ولكن آه يا أصدقائي وآه يا أعدائي لقد أعطت شمعتي ضوءاً جميلاً»! |
|