تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


النـزوح العربـي المبكــر..

الافتتاحية
الاثنين 21-3-2011م
بقلم رئيس التحرير : عـــلي قــاســـــــم

ينشطر الوضع العربي مجدداً في مشهد يستعيد الكثير من تفاصيل الماضي القريب، وإن تعدلت بعض الملامح، وتتشظى معه الاحتمالات والأبعاد، وتتوازع المخاطر مساحات جديدة، بينما تنذر التطورات بكثير من العواصف المسبقة الإعداد والتنظيم.

على ضفتي المشهد تأخذك الصور المنتقاة لتقول ما هو خارج نطاقها، وفي أغلب الأحيان تضيف هنا وتحذف هناك لتكون على المقاس الذي يريد إخراجه.. لا حرج في ذلك.. ولا لحظة تردد في استنساخ منتج مختلق، لا يستند إلى الأصل في شيء.‏

لعبة في الإعلام.. رياء في السياسة.. تلفيق في الاستنتاج، وفي الحصيلة علينا أن نستمد المشهد ذاته، وعلى وقع من يريد أن يرفع رايات الابتهاج بدخول دولة عربية أخرى إلى زواريب الاقتتال ويسورون آراءهم بإطارات الصور التي أعقبت مجلس الحرب المنعقد في قصر الأليزيه.‏

على وقع ذلك كله تتحرك الزوابع في كل الاتجاهات وترسم واقعاً يوغل في قسوته، وفي بؤسه إلى حدود غير مسبوقة.. أغلبيتهم لم يستفد من دروس الماضي، وليس هناك بينهم من لديه استعداد لصوت العقل.. ولا لتداعيات الخطأ من جديد.‏

هناك بدأت أول خيوط المتاهة.. وهناك يرسمون سيناريوهات لما هو قادم.. يجرون تجارب أولية على الصمت العربي.. وعلى الكلام العربي.. في الحالتين ثمة منفذ للاتكاء.. وأرضية للتهيئة السياسية صالحة للاستخدام.‏

عقود وفلسطين من ضياع إلى آخر.. وسنوات... والوجع العراقي يستنزف حلم الأمة.. فجاءت ليبيا لتحكي قصة ضياعها أمام أنظار العرب، وما بقي منها كانوا أول البائعين له، وأول المهللين لتسويقه رخيصاً للآخرين، بينما ثمنه العربي غال.. سيجلسون غداً لجردة حساب ستقولها الفواتير الباهظة التي تنتظر خزائنهم.‏

وفي الضفة الأخرى تشتعل الآلام العربية دون توقف.. يحاصصون على فتات الموائد الدولية.. وينثرون ما اقتنصته جيوبهم.. على قذائف التحالف وصواريخه التي تجتاح سماء ليبيا.‏

ولا ينفع عمرو موسى القول إن ما يجري يختلف عما طالبت به الجامعة العربية.‏

كنا منذ البداية.. ضد هذا النزوح العربي المبكر.. وكان لابد أن نخالف حضورهم المحتفي باستدراج التدخل الأجنبي.. وكانت فواتير مواقفنا غالية.. دفعناها برغبة في منع تجدد المأساة مرة أخرى.. وسندفعها لو تكررت، لأننا بالضرورة خارج أي قرار يفتح البوابات أمام التدخل الخارجي، وخارج أي مشهد يستعين بالعدوان طريقاً.. لقهر شعب عربي أكثر مما هو مقهور.. ولتزيد عمق جراحه النازفة.‏

ليست منّة.. لكنه تاريخ وجودنا.. قدر جغرافيتنا السياسية والاجتماعية والفكرية.. أن نكون مع العربي حيث تحضر مصالحه.. ومع تطلعاته حيث يجد خلاصه.. وها نحن مرة أخرى على المفترق الصعب.‏

ليست المرة الأولى التي تحاك فيها لعبة الأمم أمام أعيننا.. ولا هي الحكاية الأولى لخيوط يتلاقى فيها الكذب والرياء وتتقاطع معها المحاولات لتجد في بعض الأنسجة الرخوة منفذاً.. أو لتتوهم أنها ستنفذ إلى حيث ترغب وتعمل على مدى عقود طويلة.‏

ندرك حجم ما هو مطلوب.. وقد بدأت الخطوات منذ نيف من السنين،.. تعثر بعضها.. تأخر بعضها.. وهذا ليس خافياً علينا.. أشرنا إليه، قبل أن يشير غيرنا.. بل سبقناه في تلمس حدوده ومساحته وفي وضع التصورات لتداركه.‏

في هذا الزمن الضبابي.. ثمة خلط متعمد.. ثمة أسئلة تحريضية.. ثمة أضاليل.. والخلط يمتد من عمق وجودنا ليلامس تفاصيل الحياة اليومية لواقعنا العربي، يرسم خرائطه على أنقاض جراحنا.. وعلى وقع آلامنا.. وعلينا أن نصفق له.‏

لم نعتد ذلك.. كما أن المهرولين والمتحمسين والمندفعين لم يعتادوا إلا على ذلك.. هي باختصار عادة أغلبيتهم التي تحولت إلى سلوك.. والسلوك الذي بات موجعاً في ركونه.. ومؤلماً في حراكه.‏

هو إذاً النزوح العربي من جديد.. يغيب حيث يجب أن يحضر.. ويتهافت للحضور حيث يُنتظر منه الغياب ولو كان قسرياً أو عرضياً.. دائماً أو مؤقتاً.. لكنه مرة أخرى يحضر بطعم أمرّ من الغياب.. وينتفض.. حيث يقتضي الأمر أن يسكن ويهدأ..!!‏

a-k-67@maktoob.com

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية