|
فضاءات ثقافية تُعتبر الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس من أكثر الكتّاب الذين يشتغلون على صدمة قرّائهم. فكلّما أصدرت مؤلّفاً احتوى حقائق جديدة عن حياتها.. بما امتلأت به من أحداث غنية وتقلّبات عاصفة.. فشكّلت مصدراً أول استقت منه أفكار الكثير من مؤلّفاتها.. وهو ما كان أساس مبدئها: (لا يمكن أن توجد كتب عظيمة ما لم يتعامل مؤلّفها مع الذات). مؤخراً عادت دوراس إلى الواجهة عبر كتاب (الشغف المعلّق) الذي يقدّم صورة جديدة عنها من خلال حوارات أجرتها صحفية إيطالية شابة (ليوبولدينا بالوتا ديللا توري) صدر بالفرنسية بعد خمس وعشرين سنة على صدوره بالإيطالية.. ويحكي عن موضوعات شغلت الكاتبة حول الكتابة والسياسة والأدب والسينما. ولدت دوراس في جيا دنه في فيتنام، اليوم الرابع من نيسان عام 1914، قبل أسابيع من بدء الحرب العالمية الأولى. كان اسمها مارغريت دوناديو.. غيّرته بعد أن احترفت الكتابة ليصبح مارغريت دوراس نسبةً لإحدى المناطق الفرنسية التي تعود إليها جذور والدها الذي كان يعمل مدرساً للرياضيات في فيتنام.. ومات بمرض عضال وهي في الرابعة من العمر. كتابها (العاشق) الذي نُشر عام 1984، فاق بقية كتبها شهرةً ونالت عنه في نفس العام جائزة (غونكور) الأدبية ما جعلها واحدة من أكثر الروائيين الفرنسيين قراءةً.. وفيه نطلع على ذكرياتها أيام الطفولة والمراهقة التي أمضتها في فيتنام حتى عودتها مع العائلة إلى باريس.. حيث ترسل الفتاة مارغريت بعد موت والدها إلى مدرسة داخلية في سايغون. كانت أمها قوية تعمل في الخدمات البريدية. ويبدو أنها أهملت تربيتها وفضّلت عليها الأخ الأكبر. وكما لو أن مارغريت لم تنل الرعاية والعاطفة الكافية في ذلك العمر، كانت في الخامسة عشرة، فحاولت أن تبحث عن نوع من الاستقلال والاستقرار العاطفي خارج إطار الأسرة متحررة من إنهاك أمها وإدمان أخيها الكبير وهشاشة الصغير. ضمن جو أسري غير مستقر تتعرّف الفتاة بشاب محلي ثري.. معه قرّرت أن تبدأ شكلاً جديداً للحياة.. وهكذا كانت قصة حبّها التي تنتهي بمجرد عودة العائلة إلى باريس. الحب وفقاً للرواية: (لا يأبه لاختلافات.. إنه لحظة إشراق عصية على الفهم تبزغ بين شخصين من دون أن تراعي تداعيات محتملة). في روايتها تعترف أنها لم تزل وفية لحب قديم. الرواية تخبر في آخر تفاصيلها أن هذا العاشق العجوز يزور باريس مع زوجته.. ويتصل بالعاشقة هاتفياً.. أنهى مكالمته باعترافه أنه سيظل يحبها حتى الموت. تميّز الكتاب بغنى أحداثه وامتلأ بذكرياتٍ كثيرة تعود عبرها لتسرد كيف ماتت والدتها وأخوها الصغير وكيف ضاع الأخ الكبير في المخدرات. فيما كتبت دوراس دائماً عبّرت عن موضوعة الحب المستحيل.. هي التي عاشت قصص عشق شهيرة.. أبرزها قصة حبّها للشاب يان اندريا الذي كان كاتباً في بداية حياته الأدبية.. التقاها وله من العمر خمس وعشرين سنة وكانت هي في السادسة والستين.. وجدت فيه ما لم تجده في كبار كتّاب فرنسا.. وتحدّيا بحبهما كل المفاهيم الاجتماعية السائدة عن الحب والعمر. آخر أيامها كان الثالث من آذار عام 1996، في أحد أحياء سان جيرمان الباريسية.. في ذاك اليوم كان يان اندريا إلى جانبها.. لم يتخلَ عنها إذ أخلص العاشق الشاب لمحبوبته العجوز. وصف تلك النهاية بكتاب يسرد فيه حكايته مع دوراس وحاز عن الكتاب عام 2000 على جائزة (عيد العشاق) الأدبية. ويذكر أن اندريا بعد موت دوراس اعتزل الناس والحياة فترة طويلة. استثمرت السينما حياة الكاتبة بكذا فيلم.. فأول الأمر تم تحويل كتاب (العاشق) إلى فيلم.. ثم حوّلت حياة دوراس وقصة حبّها للشاب يان اندريا هي الأخرى إلى فيلم فرنسي شهير. لم يكن هذا كل شيء بخصوص علاقتها بالسينما.. فإلى جانب خوضها في شتى مجالات الكتابة من قصة ورواية إلى مقال ومسرح, كتبت السيناريو السينمائي.. لم تكتفِ بذلك حيث حاولت التأسيس لسينما أوروبية شابة في ستينيات القرن الماضي بوقوفها مخرجةً. ابتدأت شهرة دوراس برواية (حاجز على الباسفيك) نشرت عام 1950، وتدور حول طفولة الكاتبة في الهند الصينية.. ثم ازدادت شهرتها بأعمالها المسرحية (الميدان) عام 1962، و(أيام بأكملها بين الأشجار) عام 1968.. ثم كان أن عُرفت على نطاق واسع بسبب رواية (هيروشيما حبيبتي) وحوّلها المخرج آلان رينيه إلى فيلم بالاسم نفسه حصد عام 1975، جائزة مهرجان (كان).. تلا ذلك نجاحها الساحق الذي حققته عبر كتابها (العاشق). في كتابها الأخير الذي جاء بعنوان (الكتابة) تقول دوراس: (أن أكون وحدي مع الكتاب الذي لم أكتبه بعد، هو أن أكون مازلت في الإغفاءة الأولى للبشرية). |
|