|
فضاءات ثقافية ويستحضر العالم في هذه الأيام الذكرى العاشرة لوفاتها. تجسد آنا ماري شيمل منهج بحث في العلوم الإسلامية يندر أن يُضاهى في الغرب. وبوفاتها فقد العالم امرأة لعبت دور الوسيط الثقافي بين الغرب والعالم الإسلامي في وجه الأحكام المسبقة والكراهية عبر فهم روح الإسلام. تجدر الإشارة إلى أن آنا ماري شيمل ترعرعت في ظل بزوغ نجم النازية في ألمانيا وفي حقبة سادت فيها ثقافة احتقار الآخر وتأليه الذات. في ذلك الوقت الذي اعتبرت فيه الحياة في «الكيان الألماني» والانتماء «للعرق الآري» أعلى القيم، تلقت شيمل وهي لا تزال تلميذة دروساً خاصة في اللغة العربية وتعلقت بها. ارتباط وثيق بالإسلام انطلاقاً من عام 1940 بدأت آنا ماري شيمل العمل على رسالتها للدكتوراه حول «مكانة الدين في المجتمع المملوكي» تحت إشراف الأستاذ ريتشارد هارتمان، وفرغت من إنجازها عام 1941 وهي في سن التاسعة عشرة ونشرتها في مجلة عالم الإسلام تحت عنوان «الخليفة والقاضي في مصر في العصور الوسطى المتأخرة». كما حصلت عام 1951 على شهادة دكتوراه ثانية عن «مصطلح الحبّ الصّوفي في الإسلام» ثم ترجمت مقاطع طويلة من مقدمة ابن خلدون، وزارت تركيا لأول مرّة عام 1952 حيث شغلت ابتداء من سنة 1954 منصب أستاذة في تاريخ الأديان بجامعة أنقرة، وحاضرت باللغة التركية حول «تاريخ كل الأديان وعلم ظواهر المعتقدات، باستثناء الإسلام» وبعد وقت قصير تمكنت من إتقان اللغة التركية. شعرت آنا ماري شيمل طوال حياتها بارتباط وثيق بينها وبين الإسلام وثقافته، وسئلت مرات عديدة– من مسلمين وغير مسلمين– عما إذا كانت مسلمة. لكنها اعتادت تفادي الإجابة والاكتفاء بالقول إن المسلم الجيد هو الذي لا يعرف ما إذا كان مسلماً إسلاماً جيداً أم لا. لقد أحبت شيمل «الإسلام» طالما لم يتوجب عليها الانتماء إليه، وكان جهدها في الحفاظ على هذا الموقف المتوازن أحد العوامل التي ساهمت في دفع طاقتها الإنتاجية إلى حدودها القصوى. تكمنُ مواطن القوة لدى آنا ماري شيمل في تخصصها في التفسير المبني على الإحاطة اللغوية بمصادر النصوص الصوفية والشعرية الصعبة، ونقل هذه النصوص من اللغات العربية والفارسية والتركية والأردو والباشتو والسندية إلى الألمانية والإنكليزية. كما فتحت تحليلاتها للصور المجازية في الصوفية والشعر الإسلاميين أبواباً جديدة للمختصين والهواة على حد سواء، واتخذت تراجمها من اللغات الإسلامية شكلاً لاقى اهتماماً في الأوساط الأوروبية والأميركية المثقفة. التفاتة لوهج التصوّف تمكنت شيمل من إيصال المعنى الجمالي والفكري لهذه النصوص دون خيانة الأصل، في تقليد متعمد منها لقدوتها فريدريش روكرت، الذي أعجبت بترجمته العبقرية لأجزاء كبيرة من القرآن الكريم ولقصائد شعرية عربية وفارسية. كما قرأت نصوص التصوف الإسلامي، الذي تصفه بـ»روح الإسلام» ولم تهتم بتقليدية الفقهاء السلفية أو مدارسهم الفقهية وكانت تعتبر أن الشريعةَ– بما فيها من تفاصيل فقهية قانونية كثيرة ولا نظريات الكراهية وممارسات الإسلامويين المعاصرين– تمثل قلب الإسلام ولبه. كما تفطنت إلى أن الحرية الشخصية التي بشرت بها نصوص أوروبية استبقتها نصوص الصوفية الإسلامية بوقت طويل، وذلك عبر التوحيد العقائدي بين ما هو بشري وما هو إلهي والإصرار على منفذ مباشر وفردي للحقيقة وهو ما لا يتوفر في الدين السياسي. تمنت آنا ماري شيمل أن يتم ترتيل سورة الفاتحة على نعشها قبل دفنها، وذلك في تأكيد على إمكانية التصالح بين الأديان حتى بعد وفاتها. وعندما تسلمت جائزة دور النشر الألمانية للسلام في 15 تشرين الأول 1995 في كنيسة القديس بول بمدينة فرانكفورت، كانت قد وصلت إلى نهاية الطريق. فأثناء النقاشات العلنية التي دامت شهوراً حول تصريحاتها غير المقنعة والتي أسيء فهمها بخصوص كتاب «آيات شيطانية» لسلمان رشدي، وردود الفعل على هذا الكتاب في العالم الإسلامي كانت آنا ماري شيمل مقتنعة بأنها باتت على وشك أن تخسر كل ما عملت من أجله طوال حياتها. لكن الكلمات التي ألقاها الرئيس الألماني آنذاك رومان هيرتسوغ في خطاب تكريمها رفعت من معنوياتها، إلا أنها وحتى آخر أيامها تجنبت النقاشات العلنية حول هذا الموضوع. وفي نهاية المطاف قام الشيخ أحمد زكي اليماني، الذي كان صديقها الحميم لسنوات طويلة، ويرأس مؤسسة الفرقان في لندن التي عملت فيها شيمل مستشارة، بقراءة سورة الفاتحة في ختام القداس البروتستانتي بكنيسة الصليب في مدينة بون في الرابع من شباط 2003 وبذلك حقق أمنيتها في أن تقرأ سورة الفاتحة على نعشها لتأكيد إمكان تعايش الأديان حقيقة وواقعاً. وبوفاتها، رحلت امرأة دافعت باستماتة عن إمكانية التعايش بين الثقافات والأديان، وكانت– بامتياز- بانية جسور بين الشرق والغرب. واستخدمت الحوار والمصالحة والتعايش أسلحة في وجه الأحكام المسبقة والكراهية وكانت دوماً تنادي بوجوب معرفة الآخر. |
|