|
ثقافة أو الخشن أحيانٍ أخرى، في هذه المطارح العابقة بالحب كرائحة التراب بعد المطر، ينبت الشهداء أيضاً، وتصير هذه البئية تعبق ببخور القداسة، وهي تقول لك أمشِ الهوينى، فهنا ثمة قديسون يرتاحون؛ دماؤهم لاتزال طازجة، فلا تقلق هدأة نومهم، وقد تركوا أرواحهم سياجاً ليغفو الوطن بسلام.
ذلك ما اشتغل عليه الأديب السوري حسين عبد الكريم، في سابع رواياته «أنوثة بالعامية لا تتلعثم بالفصحى» هذه الرواية الصادرة مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب - وزارة الثقافة، والتي جاءت أيضاً بعد ثلاث مجموعات شعرية، ومجموعتين قصصيتين؛ لا يُغادر فيها - جميعها - حسين عبد الكريم؛ أزمنة وأمكنة لاتزال الذاكرة تشتعلُ بها؛ وهي في بريتها الأولى، في جمالها العفوي الطازج حيث القلب يخفق مع رفة طائر أو رمشة عين، ثم يستطيل عبد الكريم بتلك الأزمنة العفوية، ويسحبها من جبليتها الأولى، أو من سهولها بين الينابيع والتلال ليُدمج كل الطبيعة في انجدالٍ عاشق من العسير انفصامه الآن وهنا، الطبيعة التي تنجدل بحياة البشر، حتى تكاد تشبههم فقامات السنديان والتلال تُشبه قامات رجال المكان ونسائه، وحتى تلك الجرود والحفافي الفقيرة؛ لها مُعادلها الإنساني، هنا وعلى مدى بياض هذه الرواية كان على الكاتب أن يجدَ مُعادلاً آخر للمكان بكل تفاصيله الطبيعية والبشرية، وهو المُعادل اللغوي حتى بدت لعبته الروائية، أو هنا تكمن الفعالية الأدبية للرواية. «أنوثة بالعامية لا تتلعثم بالفصحى» منذ هذا العنوان، وحسين عبد الكريم، يُجري معادلته الروائية القائمة على المُقاربة بين الأنوثة واللغة، وهذا ما يُشكل منعطفاً جمالياً في تجربة هذا الأديب الذي أوقف كتابته على شواغل الريف السوري خلال القرن العشرين لاسيما في زمانه الجبلي الساحلي الذي يُشغل غرب سورية بكامل الفينيقية وبكامل أرجوانها وأزرقها، حسين عبد الكريم الذي بدأ صفحاته الأدبية بالشعر - مجموعة ظل السفر الآخر - خلال نهاية ثمانينات القرن الماضي، يكاد يقول كامل الشعر لكن بحوامل أخرى غير القصيدة، وأقصد بذلك من خلال الرواية أو ينثر الشعر في تفاصيلها.
ففي هذه الرواية وكأن الرجل يبحث عن جماليات اللغة العامية التي هي بمنتهى الفصاحة وبكامل الشاعرية، لكنها التراكيب المهملة والمتروكة لأنها غافية بين أشواك العامة، تماماً كالجمال الأنثوي لنساء ريفيات المهمل على السفوح، وهو الجمال المتفجر كما الينابيع لكنه المتروك لأنه ريفيّ وحسب، بين أطراف هذه المعادلة تكمن لعبة حسين عبد الكريم اللغوية حيث يصير قدّ الأنوثة جُملاً مُفيدة في نصٍّ مشدود كجسد ريفيةٍ على النبع، وهكذا كان على الأديب حتى يُكمل حكايات النساء العاشقات على مدى زمان يمتد من سبعينات القرن الماضي وحتى نهايات العقد الثاني من هذا القرن لتكتمل الرواية وقد «شيّك» خلالها الأديب على كل عناصر المكان ومفرداته وناسه وعشاقه، وتحولات الجسد وكذلك المكان من جمال عفوي إلى تصنع الجمال، ومن نبع صافٍ كعين الديك، إلى عمارات الفساد التي أغلقت الأفق، غير أن ثمة أمراً لا يُمكن لناس المكان أن يكفروا به؛ وهو قدسية الوطن وقداسة الشهيد، فقداسة الشهداء الذين ملأت أضرحتهم المكان تماماً كأولياء الله الصالحين الذين تُعمر قبابهم مرتفعات الجبال وقممها، هم نتاج هذا المكان الذي لا يملّ العشق، ولايسأم من الحب، الحب الغامر والشامل كهبوب نسائم الصباح والموزع صوب كل الأشياء وكل التفاصيل الجميلة، التي لها ترخص الأرواح ليبقى العشق أخضر، مُعيداً قصص أدونيس وتموز وأنكيدو وكل الآلهة لعشاق الشهداء الخالدين. الذين خطوا شقائق نعمانهم في كل الحقول والحواكير. في سرده لقصص العاشقات؛ تكتمل الحكاية، حيث يسرد حكاية كل عاشقة، ومن ثم لتنجدل الحكايات في روايةٍ واحدة بلغةٍ كانت العمارة الشعرية لسرد قصص الحب المفعمة بالشغف والتوق، لنسمعه كيف يسرد حكاية «نسمة» إحدى عاشقات الرواية وقد تماهت اللغة بقدِّ الصبية: «نسمة وهي تتكلم، كأنها تنفض غباراً عن الحروف، أو تكنسُ النسيان عن المعاني، أو تودُّ تكحيل الألفاظ بالنطق المُشبع بالرونق.. أنوثة تعبرُ أقواس الأنوثة عبر سلالم موسيقا النعومة التي يتأرجح صوتها، كما تأرجح غيمة على جبال ريح وشوق بروق». |
|