|
ثقافـــــــة وهذا يعني أن السيرة الذاتية تمتاز بمجموعة من الخصائص الدلالية والفنية والجمالية، والتي تتمثل في التركيز على الذات، واستخدام ضمير المتكلم... هنا نتطرق لشاعرين كتبا سيرتهما الذاتية وهما نزار قباني ومحمد مهدي الجواهري. قباني: أنا من أمةٍ تتنفس الشعر الشاعر نزار قباني حين كتب سيرته الذاتية الشعرية (قصتي مع الشعر) كتبها بكل تجرد, فهو يتحدث عن طفولته وكيف كان لها أكبر الأثر في صبغ أفكاره وشعره.. يتحدث عن أسرته، وعن داره، وعن مدرسته، وعن الخلفيّة العائليّة والاجتماعية والثقافيّة التي تقف وراء شعره, تحدث عن القصائد التي صنعت مجده، وعن القصائد التي حملت حتفه....الخ وبالطبع كان هذا بلغة رقيقة سهلة ممتنعة مغرية للمتابعة تشبه شعر نزار الساحر للعقول.. افتتح نزار كتابه: أريد أن أكتب قصتي مع الشعر قبل أن يكتبها أحدٌ غيري أريد أن أرسم وجهي بيدي إذ لا أحد يستطيع أن يرسم وجهي أحسن مني أريد أن أكشف الستائر عن نفسي بنفسي قبل أن يقصّني النقّاد ويفصّلوني على هواهم قبل أن يخترعوني من جديد وحول علاقته بالشعر والذي هو قَدَرَه على حسب قوله يقول: أنا من أمةٍ تتنفس الشعر، وتتمشط به، وترتديه, كلُّ الأطفال عندنا يولدون وفي حليبهم دسمُ الشعر, وكلُّ شباب بلادي يكتبون رسائل حبهم الأولى شعراً, وكلُّ الأموات في وطني ينامون تحت رخامة عليها بيتانِ من الشعر. الولادة على سرير أخضر يوم ولدتُ في 21 آذار (مارس) 1923 في بيت من بيوت دمشق القديمة، كانت الأرض هي الأخرى في حالة ولادة.. وكان الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضرا، الأرض وأمي حملتا في وقت واحد, ووضعتا في وقت واحد هل كان مصادفة يا ترى أن تكون ولادتي في الفصل الذي تثور فيها الأرض على نفسها، وترمي فيه الأشجار كل أثوابها القديمة ؟ أم كان مكتوبا عليَّ أن أكون كشهر آذار، شهر التغيّر والتحوّلات كل الذي أعرفه أنني يوم ولدت، كانت الطبيعة تنفّذ انقلابها على الشتاء.. وتطلب من الحقول والحشائش والأزهار والعصافير أن تؤيدها في انقلابها.. على روتين الأرض. هذا ما كان يجري في داخل التراب، أما في خارجه فقد كانت حركة المقاومة ضد الانتداب الفرنسي تمتد من الأرياف السورية إلى المدن والأحياء الشعبية. أسرتـي وطفولتي في التشكيل العائلي.. كنت الولد الثاني بين أربعة صبيان وبنت، هم المعتز و رشيد و صباح و هيفاء. أسرتنا من الأسر الدمشقية المتوسطة الحال, لم يكن أبي غنيّاً ولم يجمع ثروة، كل مدخول معمل الحلويات الذي كان يملكه، كان يُنفق على إعاشتنا، وتعليمنا، وتمويل حركات المقاومة الشعبيّة ضد الفرنسيين. وإذا أردت تصنيف أبي، أصنفه دون تردد بين الكادحين، لأنه أنفق خمسين عاماً من عمره، يستنشق روائح الفحم الحجري، ويتوسّد أكياس السكر، وإني لأتذكر وجه أبي المطليّ بهباب الفحم، كلما قرأتُ كلام من يتهمونني بالبورجوازية والانتماء إلى الطبقة المرفهة، والسلالات ذات الدم الأزرق... أيّ طبقة.. وأيّ دم أزرق.. هذا الذي يتحدثون عنه ؟ إن دمي ليس ملكياً..ولا شاهانياً وإنما هو دم عادي كدم آلاف الأسر الدمشقية الطيّبة التي كانت تكسب رزقها بالشرف والاستقامة والخوف من الله.. دارنا الدمـشقية لا بد من العودة مرّة أخرى إلى الحديث عن دار (مئذنة الشحم) لأنها المفتاح إلى شعري، والمدخل الصحيح إليه, وبغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غير مكتملة، ومنتزعة من إطارها...هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر ؟ بيتنا كان تلك القارورة. إنني لا أحاول رشوَتكم بتشبيه بليغ، ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر.. وإنما أظلم دارنا. والذين سكنوا دمشق، وتغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيّقة، يعرفون كيف تفتح لهم الجنّة ذراعيها من حيث لاينتظرون... الحب أنا من أسرة تمتهن العشق, والحب يُولد مع أطفال الأسرة كما يُولد السُكّر في التفاحة.. في الحادية عشرة من عمرنا نصبح عاشقين، وفي الثانية عشرة نسأم, وفي الثالثة عشرة نعشق من جديد, وفي الرابعة عشرة نسأم من جديد, وفي الخامسة عشرة من العمر يُصبح الطفل في أسرتنا شيخاً.. وصاحب طريقة في العشق.. جدّي كان هكذا.. و أبي كان هكذا.. و إخوتي كلهم يسقطون في أوّل عينين كبيرتين يرونهما, يسقطون بسهولة, ويخرجون من الماء بسهولة.. كل أفراد الأسرة يُحبّون حتى الذبح.. وفي تاريخ الأسرة حادثة استشهاد مثيرة سببها العشق.. شاعر النساء صحافتنا العربية لها ولع غريب باختراع ألقاب للشعراء, وكلما فتحتُ صحيفة يومية ورأيتُ اسمي مقروناً بلقب جديد، تساءلتُ بيني وبين نفسي إذا كنتُ أنا الرجل المقصود.. أكثر هذه الألقاب مطاردة لي هو لقب (شاعر المرأة).. أنا بالطبع لا أرفض مثل هذه النعمة, ولكنني أعترض على هذه التسمية إذا كان يُقصد بها تحديدي ووضعي في دائرة مغلقة. الجواهري (صوته الهادر) الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري أيضاً كتب سيرته الذاتية تحت عنوان (مذكراتي) وفيها يكشف العديد من الأحداث التي عاصرها طوال عمره الذي امتد إلى مايقرب من قرن من الزمن وتطرق من خلاله إلى طبيعة علاقته بأبرز الشخصيات الثقافية والاجتماعية والسياسية ومنهم ثمانية رؤساء حكموا العراق ابتداءً من الملك فيصل الأول حتى صدام حسين. يتطرق الجواهري إلى بداية العلاقة بينه وبين عبد الكريم قاسم ، التي لم تبدأ عند تسلم السلطة كما هو معروف، بل تمتد إلى عشرة أعوام قبل الانقلاب الذي أطاح بالملكية وجعله على رأس السلطة وبالتحديد في لندن عندما كان قاسم ضابطا في الملحقية العراقية في لندن في نهاية الأربعينات، ويقول في ذلك: «يعلم من حولي جيداً من قصائدي وما حوته صحفي وما كان من مواقفي، مدى بغضي لبريطانيا، لما حملته للعراق من ويلات، منذ الاحتلال حتى الانتداب»...الخ. الجواهري الشاعر الذي بقي يحتفظ بقيمة كبيرة في حياة كلّ من استمع لشعره، رافق صوته الهادر وعاطفته الشخصية وتفاعله مع الحس العام سنوات تشكّل الهوية العراقية، حيث أرخ في قصائده تاريخ معين أو صورة معاصرة للحدث أو الشخصية أو المناسبة التي يكتب عنها.. فالجواهري ابن عصر الصحافة، حيث كانت الصحف في عهد تأسيس الدولة العراقية، الظاهرة الأبرز للحداثة السياسية والاجتماعية، يوم كانت منبرا لحرية وتعددية الرأي. كانت الصحيفة بيت الجواهري المفضّل، كما كتب في مذكراته، حين أصدر أكثر من ثلاث صحف، وخاض غمار الرأي المعارض وانتقل بين الخنادق من خلالها، ولكنه بقي الشخصية الأجدر التي اختارها الصحافيون، كي تكون على رأس أول اتحاد لهم. |
|