تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


المشرق العربي في مواجهة مشاريع الهيمنة...صراع الإرادات وحكم التاريخ

شؤون سياسية
الاحد 24/12/2006
الدكتور حسن أحمد حسن

التفكير ببسط السيطرة والنفوذ على المشرق العربي ليس وليد اليوم أو الأمس القريب,بل هو جزء من تفكير القوى المتنفذة عبر قرون,

ولكي لا نغوص عميقاً في التاريخ وبعيداً عن نظرية المؤامرة التي أصبحت شماعة لتبرير إخفاق العديد من الأنظمة الحاكمة في تكوين موقف فاعل يقي المنطقة شرور الأطماع الخارجية التي تستهدف الحاضر والمستقبل بآن معاً,إن المنطق يفترض إلقاء نظرة شمولية على ما شهدته المنطقة في الآونة الأخيرة وتشهده لمعرفة الأسباب والدوافع وتحصين الذات.‏

وإن نظرة موضوعية لجغرافية المشرق العربي ضمن الخارطة الكونية تؤكد أن هذا المشرق يمثل خزاناً استراتيجياً لا يمكن اسقاطه من حسابات أية قوة تسعى لاثبات قدرتها في السياسة العالمية لأسباب عدة: جغرافية-اقتصادية- عسكرية-سياسة.. واحكام السيطرة على هذه المنطقة بالمفهوم العسكري المباشر أمر يتطلب فوق ما تمتلكه أية دولة مهما كان نفوذها,وبالتالي فالطريق الأقرب لتحقيق ذلك هواعتماد سياسة (فكي الكماشة) وهذا ما يتم العمل على تنفيذه,إذ يمثل لبنان بامتداده الساحلي المتصل بحدود فلسطين المحتلة طرفاً غربياً لا غنى عنه,ويمثل العراق الطرف (الفك )الشرقي لكماشة يراد لها أن تطبق على كامل المنطقة تاريخياً وجغرافياً وأنثروبولوجياً وإمكانات اقتصادية وسياسية.‏

إن مثل هذه النظرة الجيوبوليتيكية يمكن أن تسهم في فهم تركيز المحافظين الجدد على مد أذرعهم الأخطبوطية عبر الجسد اللبناني والعراقي بآن معاً,وهذا يعني تلقائياً أن تكون سورية في مركز الضغط,وبقدر ما يكون هذا المركز صلباً وعصياً على الانضغاط بقدر ما يحمل في طياته امكانية كسر أحد أطراف الكماشة أو كليهما معاً والعكس صحيح,كما أن مناعة الداخل اللبناني والعراقي يمكن أن تشكل تهديداً جديداً لتلك الأذرع الأخطبوطية ولطرفي الكماشة المذكورة والعكس صحيح أيضاً.‏

وفي ضوء هذا يمكن فهم الضغوط والتهديدات التي تتعرض لها سورية قصاصاً منها على ممانعتها تمرير المخطط الرامي الى وضع كامل المنطقة تحت سيطرة صهيو- أميركية مباشرة.‏

ومن الجدير بالذكر هنا أن أصحاب المشروعات العدوانية على الرغم من الاخفاقات المتتالية فإنهم في كل مرة يسعون لتنفيذ ما رسمه نخبة من الاختصاصيين للتعامل مع المستجدات وابتكار أساليب جديدة تستند الى التجارب السابقة فتحذف ما ثبت عقمه أو تطوره وانطلاقاًً من ذلك كانت محاولة غزو لبنان بعد اشعال الحرب الأهلية بين أبنائه عبر ارسال البوارج الأطلسية والقوات الدولية,لكن اخفاق ذلك لم يلغ الاستفادة من بعض نقاط القوة فيه وتلافي الثغرات ونقاط الضعف المكتشفة.. والانتقال الى الزاوية الأخرى بانتظار الوقت المناسب لاعادة الكرة,وهكذا يتضح كيف تم غزو العراق خارج اطار الشرعية الدولية التي وقفت عاجزة أمام الغطرسة الأميركية وهي تدك العراق وبنيته التحتية بآلاف الأطنان من القنابل.. انتصار آني كان متوقعاً دفع (بوش) للتصريح من على متن بارجة حربية في المحيط الهادي أوائل أيار 2003 أن العمليات الحربية في العراق قد انتهت.. طبعاً منذ ذلك التصريح عبرت آلاف النعوش الأميركية المحيط الأطلسي,وإدارة بوش تغرق أكثر فأكثرفي رمال العراق.‏

القوة الأعظم في العالم تمكنت من احتلال العراق,وتسابق أركانها للحديث عن ازدهار الديمقراطية في ربوعه والمستقبل الباهر الذي ينتظر أبناءه...‏

لكن ما النتيجة? أكتفي بنقل بعض كلمات كوفي أنان الأمين العام للمنظمة الدولية من حديث لتلفزيون/بي.بي.سي/ تم بثه في 4/12/2006 حيث يقول: (قبل بضع سنوات وعندما كان هناك نزاع في لبنان, وفي أمكنة أخرى, كنا نصف ذلك بالحرب الأهلية)..‏

لكن الوضع الآن في العراق كما يراه أنان (أسوأ من حرب أهلية .. إن وضع المواطنين العراقيين كان أفضل في عهد صدام مما هو عليه الآن) ويضيف ( لو كنت عراقياً لكنت قمت بالتشبيه ذاته,كان عندهم ديكتاتور قاس, ولكن كانت لهم شوارعهم, وكان بامكانهم الخروج وكان بإمكان أولادهم الذهاب الى المدرسة والعودة الى منازلهم من دون أن تقلق والدتهم أو والدهم).‏

إذا كان (أنان) رغم انقياده لمطبخ صنع القرار الأميركي يقول هذا فما الذي يقوله المواطن العراقي الذي فقد أمه أو أباه أو ابنه أوأخاه أو فقدهم جميعاً? ما الذي يمكن أن يقوله من نهب بيته ودمه واغتصب عرضه وأهين,وأذلت كرامته,ودفع الى مستنقع الخراب والدمار دفعاً? ما الذي يمكن أن تقوله معالم العراق الذي عاد قروناً الى الوراء,وأىة ديمقراطية تلك التي يتحدثون عنها? وأي ازدهار ذاك الذي كانوا يعدون به شعب العراق ... إنها ديمقراطية القتل وانتهاك الحرمات عبر سجن (أبو غريب) وغيره من المعتقلات السرية والعلنية.. إنها ديمقراطية الموت الذي يحصد بمنجله المسموم أرواح الآلاف ومئات الآلاف من أبناء العراق الذين لا ذنب لهم إلا أنهم عراقيو المولد والمنشأ والصيرورة.‏

أما الازدهار فإنه العنف وتفشي الرعب والموت,إنه ازدهار الدمار والخراب وانتشار الأمراض والأوبئة وغياب كل مظاهر الأمن والتبشير بحرب أهلية عرقية كفيلة بتقسيم العراق الى دويلات متناحرة تسعى للاستعانة والاستظلال بقوى الاحتلال العاملة على اذكاء الفتن بهدف بسط السيطرة والنفوذ ومصادرة الإرادة حاضراً ومستقبلاً.‏

باختصار شديد يمكن القول: لقد أرادت قوى البغي والهيمنة اعادة الدرس اللبناني على الأرض العراقية مع اجراء بعض التعديلات المطلوبة وأهمها:‏

- بدلاً من ارسال بوارج حربية تكتفي بالقصف, كما فعلوا في الثمانينيات بشعب لبنان, أرسلت البوارج وترجل الجند داخل العراق ليتم تحويله الى قاعدة عسكرية تغص بمئات الآلاف من الجند,وكي تقطع الطريق على أية مقاومة محتملة حل الجيش وتم التنكر لإنسانية عناصره.‏

- الخطوة التالية تكون تأجيج الفتن والعداوات,والعمل على خلق حرب أهلية الى تقسيم العراق الى ثلاث دول على الأقل وهو ما بدت تباشيره تلوح واضحة في الأفق.‏

- نشر الموت والدمار والخراب ودك البنية التحتية لأسباب أهمها:‏

أ- إشغال المواطنين عن المقاومة بتأمين متطلبات الحماية اليومية لهم ولأطفالهم وأسرهم وحصر التفكير في كيفية استمرار الحياة والحفاظ عليها بدلاً من التفكير في مقاومة المحتل.‏

ب- تجريب أسلحة حديثة,والتأكد من فاعليتها واجراء التعديلات المطلوبة في تدريبات عملية لا يمكن توفيرها بطريقة أخرى,وهذا الأمر قد يتصاعد وبخاصة بعد فشل العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان لتجريب أسلحة حديثة والاستعداد لأية مواجهة قادمة.‏

ج-اظهار الجبروت والقوة والبطش لردع الجوار,وكل من يفكر بقول(لا) لسياسة اليمين الجديد المتصهين في أميركا.‏

د- فرض المساهمة الذاتية فيما يسمى بمعركة (اعادة الاعمار) وجني الأرباح لصالح الشركات الكبرى التي كانت وراء اذكاء المغامرة لغزو العراق واحتلاله.‏

ه- فرض الوجود العسكري الأميركي كقدر لا مفر منه في المنطقة,وكبوليس تأديبي يمتلك حق توجيه التهمة والإدانة واصدار الحكم وتنفيذه بما ينسجم ووحشية صناع القرار السياسي والاقتصادي في واشنطن وتل أبيب.‏

و- اخراج العراق من ساحة المواجهة مع العدو الصهيوني,وتبديد طاقاته العسكرية والبشرية,وبالتالي ضرب العمق الاستراتيجي لسورية ومحاصرتها عسكرياً بشكل مباشر,الأمر الذي يمكن من تشديد الضغوط عليها ورفع حدة التهديدات لثنيها عن مواقفها التي استأثرت باعجاب الشارع العربي من أقصاه الى أقصاه بغض النظر عن المواقف الرسمية المعلنة لهذه الدولة أو تلك,وهذا ما يزعج (رعاة) الديمقراطية.‏

- الحديث عن انسحابات تكتيكية وتقليل عدد الجنود,والغاية من ذلك الافساح في المجال أمام الحرب الأهلية لتحصد أكبر قدر ممكن من أرواح العراقيين الأبرياء,وبعد ذلك يتم الحديث عن زيادة عدد الجنود بذريعة وضع حد للمذابح التي تتم بمباركة قوات الاحتلال, وهذا ما يحدث على أرض الواقع ويتم الترويج له.‏

وفي ضوء هذا يمكن فهم المذكرة السرية التي قدمها /رامسفيلد/ قبل استقالته,حيث كشفت صحيفة نيويورك تايمز في 2/12/2006 أن رامسفيلد قال في مذكرة سرية تحمل تاريخ السادس عشر من تشرين الثاني 2006 أي قبل يوم من سيطرة الديمقراطيين على الكونغرس الأميركي في الانتخابات النصفية:( حان وقت لتعديل كبير,الأمر بوضوح هو أن ما تفعله القوات الأميركية في العراق في الوقت الراهن غير مجد بدرجة كافية إنه لا يجري بالسرعة الكافية) .‏

وقد وضع/رامسفيلد/ في مذكرته الخطوط العريضة لخيارات عديدة لاجراء تغييرات في السياسة,من بينها اجراء تخفيضات في القوات الأميركية ,وسحب القوات من المواقع غير الحصينة واستخدامها كقوة انتشار سريع ل(مساعدة) العراقيين عند الضرورة اضافةالى اعادة صياغة المهمة والأهداف الأميركية في العراق,كما اقترح تقليص عدد القواعد الأميركية من/55/ قاعدة الى خمس قواعد فقط بحلول منتصف العام المقبل,لكنه لم يقدم أية توصيات,ورأى /رامسفيلد/ أن انسحاباً محدوداً للقوات الأميركية سيشجع الحكومة العراقية على تولي المسؤولية.‏

وقد أكدت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) صحة المذكرة وقال مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض (ستيفن هاولي) بتاريخ 3/4/2006:(إن ما قاله رامسفيلد في مذكرته يؤخذ بالحسبان).‏

إذن منذ احتلال العراق 2003 وادارة بوش تستقي التجربة اللبنانية في السبعينيات والثمانينات مع اجراء التعديلات المطلوبة للحيلولة دون تمكين المقاومين من ضرب أهداف استراتيجية أميركية قد تقود الى تغير دراماتيكي في مجرى الأحداث, وبالتالي منع تكرار ما حدث في الثمانينات,عندما استهدفت القوات الأميركية والفرنسية بعمليات استشهادية أدت الى مقتل مئات الجنود الفرنسيين والأميركيين,مما دفع القادة آنذاك الى الانكفاء عن لبنان تحت ضغط المقاومة وبكل تأكيد لو أن بعض العمليات النوعية نجحت في استهداف مقررات قوات الاحتلال لتغيير الوضع ميدانياً وعلى مختلف الصعد والمستويات.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية