تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


بــين الإخـــلاص للــضميـر و الإشـــاحــة عــنـه

آراء
الأثنين 22-6-2009م
محمود شيخ عيسى

ما إن يصل الواحد منّا إلى المنصب الذي كان يطمح في بلوغه حتى ينشب في داخله صراع عميق الجذور بين فكرتين:

الأولى تشدّه بحفظ اليد البيضاء لأولئك الذين ساعدوه في بلوغ هدفه، والثانية الالتفات للمنصب الجديد وصبّ الجهود ليكون أداة لمساعدة الآخرين والتعبير عن محبة الوطن من خلال هذه المساعدة.‏

والفكرة الأولى تكون أكثر طرقاً على باب الحرص على النعيم الذي وجد فيه ذلك الموظف حديث النعمة لذة الوصول إلى المرام بعد سنوات عجاف قاسى خلالها ما قاسى، ويشعر في قرارة نفسه بأنه محتاج إلى جرعات مكثفة من الدواء الذي يجعله قادراً على نسيان تلك الليالي المظلمة التي ساهر فيها النجوم، وكان مصباحه فيها الخوف من الغد الذي قد لا يحمل إلاّ مزيداً من المفاجآت غير السارة.‏

وهنا يفعل الخوف فعله في قلب هذا الموظف فتراه متشبثاً بالمنصب الجديد بيديه وأسنانه، لأنه يعلم أنه يحتاج زمناً لا بأس به طولاً وامتداداً ليمحو من الذاكرة أطياف تلك الأشباح السوداء.‏

هذا الخوف هو الذي يدفعه لتقديم الولاء الخالص والطاعة العمياء لأولئك الذين ساعدوه في الخروج من بئر الحرمان الذي عاش فيه زمناً طويلاً، وهنا تبدأ الفاتورة بالتضخّم، ويجد حديث النعمة نفسه مضطراً لتسديدها، ولا يحقّ له الاعتراض عليها، وربّما لن يسمح له أولئك الذين يطالبونه بالتسديد ببثّ زفرة حرّى تعبّر عن امتعاضه أو شكواه من فداحة الأثقال الموجودة ضمن هذه الفاتورة.‏

إلى هنا يبدو الوضع مقبولاً رغم أنه يُصنَّف كوضع مغرق في القساوة، لكنه يصل إلى حدّ غير مقبول عندما يصل مسلسل التنازلات إلى حلقاته المتقدمة ، لا سيّما تلك الحلقات التي يلفي البطل نفسه فيها مرغماً على تقديم التنازلات على حساب مبادئه وقيمه ومثله!.‏

في مثل ذلك الوضع تستيقظ تعابير ومفردات كانت قد احتجبت حيناً من الزمن، حتى كاد المتنازل ينساها تماماً، وهكذا يتذكر فجأة مقولة الأخلاق والشرف والضمير، ولكن هيهات هيهات لم تعد السيطرة على هذه المقولات بالأمر المتاح!.‏

أما الفكرة الثانية التي تبدأ مشبعة عادة بنار الحماسة والاندفاع، فتنطلق بسرعة أقلّ من الفكرة الأولى، وفي غمرة انشغال الموظف بزخارف وبهارج المنصب الجديد، يتناقص الحطب الموجود في تلك النار ويشحّ بل يشيخ مخزونه، وينطلق في حركة سريعة إلى الانطفاء التدريجيّ.‏

بين الفكرتين يمتدّ شريط من الدخان المتصاعد منشؤه الصراع بين الإخلاص للضمير والإشاحة عنه، فالضمير ينادي ذلك الموظف لتغليب الخير على النوازع الأخرى ولعلّ الشرّ أقلّها، لقد كان يحمل قبل الوصول كماً كبيراً من الأفكار الخلاقة؛ وها هو اليوم في الوضع الذي يسمح له بتطبيق تلك الأفكار على ارض الواقع، أو بتطبيق جزء منها، ومع ذلك يجد يده مغلولة أمام الاندفاع المحموم لإرضاء هذا وذاك، ممّن يقدّمون مصالحهم على مصلحة الوطن، بل لا يرون لمصلحة الوطن مكاناً في زحام شهواتهم وأطماعهم ومطالبهم التي لا تنتهي.‏

ومن جانب آخر يصيح به الحرص على التشبث بأهداب الكرسيّ الذي يملك بريقاً لا يقاوَم!.‏

أما حسم هذا الصراع فيكون بإقناع نفسه بأنّ الجلوس في المنصب المخمليّ هو حالة مؤقتة، بينما يشكّل نجاحه في احتلال مكانة مرموقة في قلوب الآخرين عرشاً سامياً لا يُزاح عنه، ومواد بناء هذا العرش مواد ليس الحصول عليها بالأمر العسير وهي متوفرة له في كلّ مكان، ويكفي أن يجعل خدمة الوطن والمواطنين دون انتظار المثوبة والجزاء شعاره الأول والأخير في العمل، ليجلس على هذا العرش قبل وبعد الكرسيّ الذي لو دام لغيره لما وصل إليه.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية