تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


نسور في الحياة وفي الغياب

أخيرة
الأربعاء 18-4-2012
شهناز صبحي فاكوش

قبل أيام قليلة كتبت في رثاء رجل عملاق غادر الدنيا تاركاً خلفه إرثاً يبقيه في سفر الخالدين وفي الذاكرة ما تناقلت الأجيال سيرته، عنونتها يومها( عندما تهوي النسور) كان ذلك الفنان الكبير خالد تاجا الذي لقب بأنطوني كوين العرب،

لقوة حضوره في كل شخصية كان يرتدي ثيابها، لم يخطر ببالي أن هذاالعنوان لا بد أحتاجه في يوم لرجل من عز الرجال.‏

لنسر حقيقي كان يحوم بحوامته في سماء الوطن حامياً مدافعاً مقاتلاً لأجل سيادة أرضه وحرية شعبه.‏

عشق الوطن فعاش فيه، وسكنه الوطن فأصبح قطعة منه.‏

يمم وجهه يوماً بماء الفرات حيث الخلود والصفاء، كيف لا وهو ابنه، خرج من رحم أرضه، ملأ رئتيه برائحة الطرفة والغرب، ناجاه في أيام عشقه، وتعمد جسده الطاهر بمائه كلما عاد إليه بحنينه ملتحفاً بمائه حتى صار فخره، وتبادل معه نفحات الروح وتراب الجسد.‏

كان كلما حلق فوق سهول الوطن وهضابه مقاتلاً لا بد أن ترمق عيناه ما وراء الأفق، حالماً بيوم يهبط فيه إلى الأرض التي تحلم بالحرية من قيد مغتصبيها، فلسطين، عبر الجولان الغالي...‏

حين يحلق سرب نسور في السماء منافحاً عن سيادتها، كان لا بد له حظوة بينهم، مقاتلاً مدافعاً متجاوزاً الخوف، إلى التصالح مع الموت عبر الشهادة، وكان اليوم الموعود في حرب تشرين، وتشاء الأقدار أن تصاب حوامته، وحين جاور الأرض كانت ساقه قد تعلقت ببعض جزء فقطعها بيده زارعاً إياها في أرض الجولان الغالي، واعداً إياها بالعودة منتصراً، على أن تنبت أقداماً طاهرة لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه...‏

ويغدر القدر بالرجل ليقع أسيراً بيد المعتدين فاقداًَ للوعي، ويستفيق على بتر الطرف الآخر السليم لأنهم يعلمون بخستهم من الذي بين أيديهم، فرصتهم لتحطيم الرجل، بحسبانهم سيكون( بقايا رجل) حاشاك يا بطل فالرجال في بلادي رجال حتى ولم يبق منهم إلا إصبع واحد يضغط على زناد بندقيته لا بد أن تصوب تجاه من يكبد له ويسعى لخرابه...‏

وحين يتم التفاوض على الأسرى يأبى إلا أن يكون آخر العائدين، فهو في الرتبة الأعلى، كان قائداً لكل مجموعة الأسرى في حينه، هكذا اعتبر الرجل ذاته، ولا يمكن للقائد إلا أن يطمئن على حياة أفراده... وكان ذلك..‏

وحين عاد للوطن احتضن ترابه وسجد مقبلاً إياه صوفية العشق في مشهد تجثو أمامه القيم...‏

عاد رجلاً كما غادر، لم يهتم لما فيه، كان يمنح زواره القوة، فيخشى على المدمعة عيونهم من اضطرابات دقات القلوب، فيبادرهم برباطة الجأش والابتسامة العريضة والوعد بأنه لا بد عائد إلى مقود طائرته، وكان له ذلك... حلق في أجواء الوطن بعد أن استعان بساقين صناعيتين.... أذهل السامعين والرائين، لكن إيمان ومحبة وحنان صدر قائد الوطن بتاريخه، الخالد حافظ الأسد، زاده إيماناً بقوة إرادته في تحقيق مراده.... حلق ليرى الأرض التي تحررت وغرس بها جزءاً منه من عل، وكان ذلك...‏

منحه القائد التاريخي حافظ الأسد لقباً لا يخطر إلا في بال العظماء( لقب الشهيد الحي)‏

فكان له شرف أول من نال اللقب بميزات الشهداء الرفيعة( أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر).‏

ورفيقة دربه العظيمة الساهرة على راحته وبناء صرح أسرته، وتنشئة أبناء نذروا أنفسهم للوطن كل في مجاله، كان الجميع أنموذجاً رائعاً للأسرة العربية السورية....‏

واليوم يحمل نعش البطل لتكتمل صورة الشهادة على أكتاف رجال، علت رؤوسهم فوق النجوم وفاءً وحباً ومكرمة من قائد عظيم، أبقى على ثوابت ترسخت في الضمائر والنفوس والسلوك دون أن تكتب في أسفار عبر حروف... طوبى لك ياقائد الوطن....‏

كان التوجيه في استكمال مراسم التشييع في أعلى رمزية تليق بضابط قائد في الجيش العربي السوري، شهيداً نال وسامه قبل ما يقارب الأربعين عاماً، واليوم تكتمل لحظة استشهاده.‏

لعل أقسى من لحظات الأسر ألماً في نفس الرجل، ما يراه اليوم من نكران الجميل من قبل بعض أبناء الوطن ذاته، من غرر بهم فاصطادوهم وسخروهم شارات دلالة ومتطوعين، فأصبحوا أدوات تخريب لمعالم الحياة، ليحل الحرق والدمار، ويستباح الدم الطهور للشقيق، فيكسب العدو في تشتت قلوبنا وغياب صوابية الرأي ورشاد العقول.... ما لم يكسبه منه ومن رفاقه يوماً رغم أسرهم بين يديه الغادرتين... إنه أعلم من غيره بطبع صهيون الذي يشرب اليوم أنخاب ما يحدث في سورية العربية... طرباً في كل لحظة يسمع فيها استشهاد ضابط، أو النيل من أصغر جندي، ليصبح قتل النفس البريئة عملاً مأجوراً، فازداد ألم الرجل في وجدانه وقلبه وعقله فضلاً عن ألم جسده وهو يرى نار الجاهلية تلتهم عقول شباب كان يحلم بأنهم سيكملون دربه وصحبه لتحرير ما بقي من الأرض محتلاً. ويستكمل درب التحرير إلى فلسطين وصولاً للقدس الشريف، التي يحلم كل المسلمين والمسيحين بالصلاة فيها والحج إليها محررة من يد مغتصبيها . وازداد ألمه لأن الأداة شباب الوطن والأعراب يقتلون العروبة والهوية ويستبيحون القومية، فآثر سلوك درب الغياب كي لا يرى المزيد مما يشهد، فيظل في قلبه وعقله صورة الشباب الوطني النقي الذي يملأ ساحات الوطن نادراً نفسه فداءً لسيادته وحريته، درءا لأي يد غريبة تمتد إليه، وجهوزية عالية لقطعها لحظة تمتد. فهم استباحوا ساقه السليمة وهو أسير بين أيديهم، وشباب الوطن لن يتوانوا عن بتر أي يد غريبة تمتد لتنال من الوطن الحر الأبي.‏

طوبى لوطن أنجب الأبطال والأمثال كثيرة..‏

طوبى لشعب باركه الله برجال هم أعز الرجال..‏

طوبى لسورية العربية التي رعاها الله وحماها وهيئ لها قائداً يعرف كيف تكون لحظات الوفاء.‏

فهو يزرع زنابقها ورياحينها في كل يوم، ويغرس ياسمينها ليفوح عطراً... فيتعلم منه الرجال والشباب.‏

ستظل أرض الفرات تفخر بنسرها البطل الشهيد- عدنان الحاج خضر- وستظل الوفية لقائد الوطن الذي جسد الوفاء لها بأجمل الصور. فليس يوم نصركم الذي صنعتموه في تشرين إلا ارتداداً لنصر سبقكم فيه أبطال صنعوا الاستقلال بدحر المحتل الفرنسي فأصبح عيداً نيسانياً للوطن.. كما عيدكم التشريني .. وسيكون لشباب اليوم رجال الغد عيد يليق بسورية المتجددة يوم تنتصر بشعبها على مكائد العالم لها في مواجهة الحرب الكونية التي تواجهها اليوم ونصرها هذا قريب بإذن الله لأن لها جولة رابعة ستكون طريقها إلى بيت المقدس.‏

لأننا المؤمنون دائماً بقوله تعالى «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل»،‏

إلى جنان الخلد يا شهيدنا الأغر فليست السنوات الأربعين الأخيرة من عمرك إلا جسراً، عبره تلامذة كثر في الوطن الأغلى تعلموا كيف يعبر الشهداء من دنيا الفناء إلى دنيا الخلود..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية