|
ثقافة لم يعلم أحد لمن كان يوجه اتهاماته وتحديه.. ربما أحد الكسالى القائلين تحت شجرة الجوز الوارفة امتعض من كلامه، لكن ليس بما يكفي للرد عليه.. سكت ولاسيما أنه يقدر حاجته له عندما يأتي موعد الحراثة والزرع. من كان يعني جابر.؟! ولماذا يتحدى الصيف..؟! عقلي يخبرني بعد فوات الأوان أن جهينة كانت تبكي بين الجدران وروحها تسأل: لماذا لا يعرف جابر كيف يشم الحبق؟! لماذا لا يقصد الطريق العام عند المغرب وأكون أنا والدنيا برد صيف وندى، وفيه من الدفء أكثر مما لديه من القوة.. يغير طريقه قليلاً فنلتقي على مسافة أمتار وأشعر بسخونة «مساء الخير» يقولها لي.. تقسم أديبة إن شقيقها جابر لم يقل لها يوماً صباح الخير ولا مساء الخير.. وإنه كثيراً ما ضربها.. وقد شهدته بعينها وهو يدفع الحمار عن حافة الوادي فيقتله لأنه عجز عن السير تحت الحمولة التي وضعها على ظهره.. ثم تبكي قائلة: هذا أخي وأنا أحبه.. لولاه لمتنا جوعاً.. سألت زهرة العسلي أن يزرع لها الحبق ففعل.. كان راوياً ومحباً والحبق مثله يشي برائحته أكثر من حكاية حب.. سألت أبا ميهوب فرفض وقال: لا أزرع إلا العنب.. هل سمعت في حياتك أحداً يصنع من الحبق عرقاً.. إن رغبت أزرع لك اليانسون.. نظرت إلى يدي جابر وهو يهوي بفأسه على الأرض بين حجرين بحثاً عن مزيد من التراب، ثم قالت: - الحبق يزرع في الماء وليس في التراب والصخور... عندما مات جابر وأنا في الستين نسيت نكوصه عن الوعد لي بفراخ الحجل.. تأثرت كثيراً على راحل تجاوز الثمانين لم يشم الحبق.. ولم يعرف عطر امرأة.. وعندما وصلت الأرض التي استصلحها لنا وجدتها تزخر بأشكال من زهور الأشجار والشقائق والدنيا عبق ووجدتك ولم أجده.. أحسستها قسمة غير عادلة.. أناس يزرعون الحب.. وآخرون يهيمون في فضائه.. هذه بداية أخرى للصيف.. ليس من جابر يمارس لعبة التحدي المقترنة بالاتهام.. لكن الخريف يصلح موعداً وقد ازدحمت علي المواعيد.. في الصيف نبرم مواعيد الخريف وفي الخريف نتواعد للشتاء.. وكلما أتى فصل رحل آخر.. وعندما بحثت عن وجوههم قذفتني طرقات القرية بالدخان.. على أصوات دراجة نارية تتبادل الرعونة مع راكبها، بحثت عن رجل كان يواعد الفجر كي ينشد ما لا تحتاج كلماته كي تعرف أنها تقوى وعبادة.. كثر الورد في قريتنا فغاب زخم الحبق.. لون الورد يعلن الحب.. ورائحة الحبق تشي به.. في زمن الحب المعلن نحن بارعان أن نصنع ما يشي به الحبق.. - في الخريف نلتقي.. < لماذا تتحداني يا علاء.. لماذا تهرب من الصيف.. - سأقول لك كلاماً خطيراً..؟! < قله الآن.. - لن تسمعيه.. أنت مشغولة بالحبق.. < حيث لا تكون أنت لا يكون حبق.. هات مالديك.. على مفرق أنشودة وقفت علا ترفض الحيرة.. لكن تخشى أنها تعيشها.. وتساءلت: - هل كان علاء يعرف ذلك.؟! لماذا لم ينبهني..؟! لماذا أجّل كلامه إلى الخريف..؟! يقولون إن جابر بكى حين توفيت زوجته رغم تشوهات الحكاية.. كل ما يشي به السنديان أنه لا يزهر ولا ينشر عبقاً بل يمارس التحدي.. بكى فرصته الوحيدة.. بل مأساته الأولى والدائمة.. عندما قرر أن يقطف من الحبق قطفة اتجهت يده إلى السنديان.. فعبس وجهها به ليس كرهاً بالسنديان بل لأنها تأكدت باستحالة بدء موعد الدفء.. فأجلت كل شيء للخريف..وأبكر عليها.. وأبكر بها.. نقلها إلى ظلام شتاء بلا نهاية.. غابت عن الدنيا.. غابت من العقول.. ويسألونني: - أنت كيف تتذكرها.. الفضل لك.. ولأجلك عشقت الحبق.. وأحببت الورود.. والشقائق والأكاسيا والفلفل البري... في أول الطريق أحسست بالخوف... في منتصفه تلعثمت.. في قمة الجبل اعترفت أنني خائف... قال لي أحمد وكان زعيم عصابتنا.. < ممّ تخاف..؟! - لا أدري..!! < الضباع والوحوش لا تخيف...؟! - والأفاعي...؟! < بعد أن تراها لا تخف منها.. افتح عيونك جيداً.. يومها مددت بصري باحثاً عنك... أريد الأمان.. أنا في قمة الجبل والطريق طويل وأحمد لا يجيب على سؤال عن الأصوات التي أسمعها... وأحسسته خائفاً.. قال: - على ماذا تخاف.. صمتُّ ولاحت لي في الأفق عيناكِ... وصلني مشروع وشاية من شتلة حبق.. سألني أحمد: < هل تحب فاطمة؟ - لا .. هذا وقتها..؟! < إذن على ماذا تخاف..؟! - ألا يخاف إلا الذي يحب..؟ < انظر إلى جابر لا يخاف جبلاً ولا وادياً ليلاً ولا نهاراً.. انظر إليه.. هو لم يحب في حياته.. قبضاي.. تحول خوفي إلى رعب: قبضاي كي أكون مثل جابر.. كان الصيف وكنت في قمة الجبل.. من البعيد رأيت مدرستنا تنتظرني على أبواب الخريف.. هربت من لعبة التحدي الصيفي.. هممت بالنزول من الجبل وحدي.. رفض أحمد ورافقني فتأكدت أنه مثلي خائف. روى لي حكايات ومغامرات عن بنات كثيرات... فرفضت الرواية وطلبت منه الإثبات.. قال: عندما يأتي الخريف... أهل قريتنا لا وقت لديهم.. مشغولون بكل شيء.. قطاف الزيتون جمع التين المسطوح.. تعبئة التبن.. تكديس الحطب.. تنزيل الحنطة إلى العنابر.. استعدادات لمقاومة شقوق الأسطحة والدلف .. و ...و ... بانتظار الشتاء..؟! - ألم يكن الخريف موعدنا يا علاء...؟! < سامحيني يا علا.. من دونكِ أدخل شتاء بلا نهاية.. أخرجيني من الفصول ولعبة التحدي أرجوكِ... ذات خريف سنلتقي كما وعدتكِ.. سأقول لكِ مطولاً.. سأشرح كل شيء.. سأثبت جدارتي.. سأبعد الأشباح عنكِ وعني.. ذات خريف سأروي الحكاية بلا جديد فيها.. أحبكِ.. هكذا وشى الحبق.. هكذا أعلن الورد.. a-abboud@scs-net.org |
|