|
ثقافة تلك الاضطرابات التي أرَّقته إلى أن جعلته يشعر بأن الإنسان ومهما بلغَ من التمدُّن، لابدَ أن يبقى رهين هيمنة البربرية الهمجية.
في هذه اللحظة، لم يجد بُداً من إعلان استسلامه «في انتظار البرابرة».. الاستسلام الذي أرخه في قصيدةٍ، عبرَ فيها عن حالِ كلِّ من فاض به الخواء، ومن أبناء مدينته الذين توقّعوا وإياه ماسيحل بهم وبمدينتهم بعد أن يداهمها البرابرة. توقعوا ذلك، فانتظروا انتظاره، وسألوا سؤاله: «لماذا ننتظرُ كلّنا في هذا الميدان؟!.. لماذا لايحدثُ شيءٌ في مجلس الشيوخ؟!.. كيف يجلسون ولايسنّون القوانين؟!.. لأن البرابرة سيَصِلون اليوم، وعندما يأتون، سوف يضعون القوانين..».. أسئلة، ماأكثر ماوجهناها نحنُ أيضاً، وفي هذا الزمن الأرعن رعونةَ القاتل الغدار.. الزمن الذي خلع فيه كُثر من العقلاء وعيهم وارتدوا جهلهم.. وجهناها إلى أنفسنا ومن حولنا ومن ادّعى صداقتنا وأخوّتنا، ودون أن نلقى إلا مالاقاه «كفافيس» واضطرّنا مثلهُ للاستفسار: «أين خطباؤنا المفوَّهون؟!. لماذا لايأتون ليلقوا خطبهم مثل كلّ يوم؟!.. الأن البرابرة يأتون اليوم، وهم يملّون الخطب، وتضجرهم البلاغة؟.». نعم، لقد اضطُررنا لهكذا استفسار، بعد أن داهمنا البرابرة الذين لم نكن يوماً بانتظارهم. اضطررنا أيضاً، لمقاومتهم، ومحاربتهم وسحقهم، ومن ثمَّ لمخاطبة كلِّ من انتظروا قدومهم: لاتنتظروا البرابرة.. لقد سحقناهم و أشلاؤهم في أرضنا متناثرة. حتماً، لم يكن «كفافيس» وحده من عاش متشائماً «في انتظار البرابرة» ذلك أن كُثر ممن عانوا ماعاناه، ساروا على هواه. تماماً، كما سارَ «ج.م. كويتزي» أديب جنوب افريقيا الذي استعار عنوان قصيدته، ولروايته الشهيرة «في انتظار البرابرة».. لاشكّ أنها استعارة لشنِّ الحربِ مابين المُحب والحاقد. الظالم والمظلوم. الجاهل والعاقل.. الإنسان والهمجي الجاحد.. هي أيضاً، أزمة ضمير عاشها الإنسان على مرِّ الأزمان، وجسدها كثر من الشعراء والأدباء الذين منهم من ذكرناهم. «كفافيس» و«كويتزي».. الأديب الذي جسدها في شخصِ قاضٍ، لاأعتقد وككلِّ شاهدٍ على بشاعة مايحصل في بلادنا، بأنه يعيش فعلاً في مكانٍ وزمانٍ غير مكاننا وزماننا. هذا القاضي، كان منوطاً به، ردُّ الاعتداءات البربرية عن مدينته وأهلها، وبأشكالها وتعدِّد محترفي إجرامها، وباختلاف تسمياتهم واعتداءاتهم وصفاتهم. البرابرة، ممن أصبحنا نؤمن إيمان القاضي، بأننا من نصنعهم ويعيشون بيننا، أو ربما خارجين عن عالمنا لكن، قد استُأجروا لبثِّ الرعب والفوضى والموت في حياتنا وبلادنا.. «تجارٌ يسافرون عبرَ طرقٍ آمنة.. هوجموا ونُهبوا.. اللصوص ازدادوا أعداداً وجرأة إلى أن طغوا وتجبّروا.. ليس هناك امرأة واحدة، تعيش على طول الحدود، لم تحلم بيدٍ بريرية سوداء تخرج من تحت سريرها، ولايوجد رجل، لم يخفْ لدى سماعه عن برابرة يقتحمون منزله. يكسرون الأواني.. يشعلون النار، ويغتصبون بناته».. إنها قصص، وإن سمعنا عنها أو قرأناها ضمن قصائد شعرية أو كتب روائية، إلا أننا أصبحنا نعيش بشاعة تفاصيلها بواقعية. قصص، هانحن نتلمَّس بشاعة الاقترافات التي احتوتها. اقترافات البرابرة، ممن ومثلما داهمونا ولم نكن بانتظارهم، سيداهمون العالم أجمع، وسيكون مُهدَّد بهم. إنه رأي، الفيلسوف، الفرنسي-البلغاري «تزفيتان تورد وروف» وفي كتابه «الخوف من البرابرة». الرأي الذي أكدّ به، بأن هذا العالم، وإن لم يفهم بالضبط، العناصر المكوّنة للنزاعات العالمية، ويجد طرقاً خلاقة لحلِّها، فلا بدَّ أن تداهمه البريرية بطريقةٍ يعجز عن ردّها.. إذاً، وعلى رأيه أيضاً: «إزاء التهديد لايعود هناك مجالٌ للحوار، ومامن خيارٍ آخر سوى التشدّد، لابل الحرب، وبكلّ الوسائل المتاحة». بكلِّ الأحوال, لقد داهمنا البرابرة.. أرعبونا.. قتلونا.. مزّقونا.. رغم ذلك، لازلنا نحيا لنعلن وبالصوتِ النازف، ومن أجلِ أن يسمع كل العالم، وسواء الذي دربهم وأرسلهم، أو من لايزال ينتظرهم.. من أجل أن يسمع كل هؤلاء صرختنا: لاتنتظروا البرابرة.. لقد قبرناهم في أرضنا، وأشلاؤهم فيها متناثرة.. |
|