|
سورية الجميلة فإن عدت غمرني فرح حزين يبحث عنكِ.. عندما التقيتكِ على رصيف يوم مشمس، وزاوية شارع، ومدينتكِ التي تعدني بحلم بعيد فيه أغصان تورق، وأزهار تثمر عطراً، كنت أحمل أمكنتي ودهشتي وازدحام صور ومشاهد وحكايا, ولأنك امرأة من عطر عبرت الزحام ووجدت مكانكَ.. لكن.. لم أجد لكل ما لدي مكاناً عندكِ.. قلتِ: أنتَ صياد.. أنتَ حطّاب.. أنتَ مغامر.. أنتَ عاشق للطرقات والهضاب والتلال والقلاع والغابات.. والمرأة.. هل تتملكك الرغبة بالجسد.. هل أنت شهواني؟! أنا عشقت الأمكنة زائراً.. حفظت عن سطحها بحجم ما بقي من استطاعة الذاكرة.. هذا رمل.. هذا حجر.. هذه زهرة (بخور مريم) ذاك نبات الهندباء.. هذي شجرة بلوط.. وتلك كستناء.. هذا يورق اليوم وذاك يزهر غداً.. لكل لونه.. رائحته.. موعده.. عمره.. وقد أغوتني كلما التقيت بها.. ودون صخب بحثت في كل الأمكنة عنكِ كي تكتمل الغواية.. ويوم خرجت من الذاكرة ترهاتي تتراقص أمامك لتغويك.. قلت لي: احذر أن أحبكَ.. عندها لا يبقى ما أخفيه .. وتضيق فرصي أن استغني عنكَ.. فتحول عالمي.. كل عالمي إلى امرأة من عطر. خفت من الغواية.. خفت على غربتي الأولى.. أعشق كل الأمكنة وأكون في مكان واحد فأعيش غربتي عما عداه.. من أجل غربتي واكتمال الغواية أدخلتك وحدتتي.. فأصبح خوفي عليك ومنك هو خوفي على عالمي المزدحم بالدهشة والغربة والغواية.. يقول علاء: لم أكن صياداً ولا حطاباً.. خفت على علا أن تتوه في طرق الحطابين والصيادين.. قلت لها: - أتعرفين هذه الشجرة؟ لا -إنها زعرور.. وهذه؟! لا أعرف.. أنا أعرف الأكاسيا.. والحور والقبار. - لكن في الغابات والطرقات وعند المفارق أشجار كثيرة جميلة. < لست حطابة. - أقول: أشجاراً جميلة وليست للتحطيب.. هذه قطلب.. وهذه دلب.. وهذه صفصاف.. وهذه كستناء. على تخوم غابة كستناء توقفنا.. تعرفتِ على الشجرة وفاضت ذاكرتي فضائح..فرويت لك عن دهشة تسكنني تنتظر أن تكتمل بغواية دخول غابة الكستناء. أشجار عالية شامخة.. وظلال كثيفة.. وأغصان تلامس الأرض.. ودخلنا.. وفقدنا التمييز، هل لم نعد نعرف الطريق للخروج أم أننا لم نعد نريد أن نخرج؟! تقول علا: شيء ما شدني إلى علاء.. أدهشني برغبته الدائمة في البحث عن الغواية.. وبقدرته على تلوين الأمكنة.. بجرأته في اختيار أمكنة مكشوفة غير مرئية لكنها ترى.. ورغبته.. وتصارعت مع خوفي.. -احذري يا علا.. الطرقات مليئة بالصيادين والحطابين.. حرفتهم قتل الطيور وقطع الأشجار.. أحذر على ماذا؟ - على ما هربت من أجله.. على أن تكوني أنتِ. وأنتَ -أنا لست صياداً ولا حطاباً .. أريدك أن تكوني أنتِ.. هل أنتَ بحار؟! البحر بالنسبة لي مجرد مكان يدهشني.. بالنسبة لك كان أفقاً تريدين على شاطئه الرملي الناعم أن تغيبي عن الدنيا.. وسألتكِ مستطلعاً اهتمامك الممازح بالأبراج.. هل تكره الأبراج المائية الماء؟ يقول علاء: وقفت معها أمام عين العسل.. لم تكن دهشتها تخفى على أحد.. ولا فرحتها تعطى لأحد.. إنها مثلي.. مثلنا تحب الماء.. عشاق الغابات والأشجار والطيور ومساحات البر أيضاً يحبون الماء.. أبو ميهوب نمس البراري يبحث عن الحجل والبلابل و«الدويكات» لكنه يلجأ إلى «الفلوكة» التي صنعها لترصف في وسط بحيرة نهر السن تنتظر زيارته دائماً. كثيرون ظنوا أنه يلجأ إلى «الفلوكة» هرباً من الشرطة التي تلاحقه لنزع أسلحته «تفنكة موديل 1914».. وأنا ظننته يوماً كذلك.. حتى أدمنت الغربة.. فقدرت عشق أبي ميهوب لغربته.. وللعزلة وسط الماء التي تضعه «الفلوكة فيها». نسيت قريتنا الذين تغربوا عنها.. «عزبا» التي تزوجت على شاطىء البحر.. واسماعيل الطويل الذي مات أعمى من شدة البكاء.. وبرهوم محمد الذي افتقد القرية حتى مات.. نسيت الجميع.. لكن.. لم ينسها أحد منهم. تلك الضيعة.. أي سرّ فيها.. إنه سحر الأمكنة. راقبتك وأنت تلفلفين أوراقك مزهوة بكلماتك الزرقاء.. تلمست فيها هوامش من حياتي.. فوجدت أمكنتي.. ذاكرتي.. غربتي.. وحشتي.. غوايتي.. وحدتي.. فتعلقت بحزمات الورق.. واحدة.. اثنتين.. ثلاث.. أربع.. إنها ترسم طريقاً.. يا إلهي.. متى أبدأ أنا بحزم أوراقي.. في البعيد البعيد.. قبلت حزمة ورق كأنها مصحف.. وقرأت بلهفة كلاماً أحفظه.. وتذكرت المثل الصيني أن قدمي رجل واحد لا تصنع طريقاً.. أقدام مجموعة تفعل. وعندما سألني كثيرون أو «كثيرات» عن المعني في رسائلي... شعرت أنني بدأت أسير مع كثيرين علّها ترتسم الطريق. عندما يخرج أهل قريتنا للحصاد أو قطاف الثمار في البراري يخرجون مجموعات في اتجاه واحد.. فيرسمون طريقاً.. حصاد القمح.. قطف الذرة.. حواش الزيتون.. عدا أبي ميهوب كان يخرج وحده وحسب الرائحة. من حيث تأتيه رائحة العرق يجري وحده أو مع غيره لا يهمه.. ولم يهتم يوماً بطريق.. ولا أزعم أني رسمته له.. بيننا مسافات وأجيال.. لكنني وجدت له مساراً على الورق.. - وماذا بعد يا علاء..؟! لا أدري - وعلا.. هي حياتي إما تكون أو لا أكون.. - وإن رحلت لن أرحل لن نرحل سأكمل مشواري في ظلال امرأة من عطر.. سنعمر سنين أخرى بالحب.. أنا وهي.. علاء وعلا.. سنرسم طريقاً على حزمة من ورق.. ختم يومياته بتاريخ غير محدد. |
|