|
ملحق ثقافي النص، فهي أدوات متبدِّلة مع كل نص، إذ لا توجد أساليب محورية ثابتة تحكمُ تكوينَ هذا النص، إنما هو نص يتكوَّن بشكل حلميٍّ لا ينفلت عن سلطة العقل بالكامل، وفي الوقت نفسه لا يتعسكر بتوجيهات هذا العقل، أي كما يقول «شتراوس» في كتابه «العقل البدائي»: «إن الفن يكمن في منطقة وسط بين: المعرفة العلمية - الفكر السحري الأسطوري». إن أكثر المناهج التي تمكِّننا من التعرُّف على أحاسيس الكنوز الدافئة النصية التي تحكم صهيل المدّ الشعري هو المنهج السيميائي، ذلك لأن هذا المنهج هو الأكثر عنايةً بكل ما يمكن اعتباره إشارةً، وكل ما ينوب عن شيء آخر، علماً أنَّ الإشارة - من منظور سيميائيٍّ - تأخذ شكل الكلمات والصور والأصوات والإيماءات والأشياء. وهذا التنبيه يمثل التخطيط الأولي لرسم الصورة العنوانية للنص، فالصورة العنوانية هي كل يحيل في المتن إلى العنوان بشكل مباشر أو رمزاً أو إيحاء أو غير ذلك، وبالتالي فهي الصورة الكلية للنص، فالكاتب يصنع عنوانه بقصدية ليجد ظلاله في المتن فهذه الظلال هي التي تمنح النص نسبة فاعليته وحضوره. إن المتفحِّص لديوان «قلب مصلوب» للشاعر زهير حسن يتمكَّن من تعيين سيماء الشعر من أثر الدلالة المتموضعة في بنى عميقة تتبأر في الاشتغال العنواني الذي يمركز دلالاتٍ حاكمةً في النص الشعري، وهذا ما يدعم زعمنا أنه ديوان محكوم بسلطة الأنظمة السيميائية التي تؤطِّر ولادة الفجر النصي، والمقصود بهذه الأنظمة هو «مجموعة الإشارات والإحالات والدلالات التي تمنح النصوص ارتباطاً وثيقاً بالعالم والمرجع الثقافي الذي تصدر عنه، فالنصوص تملك إشارات دالةً على مرجعها ومكوناتها الثقافية». في ضوء الإلماح فيما سبق نستطيع أن نطمئنَّ لما ذهب إليه السيميائيون من أن العنوان هو الفعل الأول الذي يجهِّز القراءة بالأدوات المطلوبة لتفكيك الشفرات الراكزة والمنتجة للمعنى الأدبي في كل نص.
لذا نلاحظ العنوان الرئيس للمجموعة «قلب مصلوب» جسَّد حركتَهُ داخل النصوص عبر ثلاث دوال عنوانية حاكمة وزَّعها كتسمياتٍ تصنيفيةٍ لنوعية حركة النصوص هي: 1- ولادة الفجر-2- صراع مع الرياح-3 كتاب مفتوح فمن الدالة الأولى «ولادة الفجر» نتعرَّف على أن الحركة الشعرية العامة في ضوء هذه الدالة هي حركة موت وولادة، وذلك بائنٌ من التفحُّص السريع للعناوين المشتغلة ضمن إطار هذه الدالة:1-قلب ومحطة – زنابق الجولان- موسيقا السنديان- رحلة في قاموس وطن- صوت الفصول.. والملاحظ على هذه العناوين أنها تؤسس لصور عنوانية تتمظهر من خلال تكوينات مقصودةٍ فالـ «ملامح» تؤسس لتجسيد وجه الكلمة الذي لا يموت وينتهي وكذلك الـ «كلمة أولى» تؤسس لتكوين السيرة المرادة فوق تراب الوطن، والأمر ذاته مع «قلب مصلوب». وبهذه الكلمة الأولى يتجه الشاعر نحو تكوينه المقصود متخذاً قراراً مصيريَّاً من الصلب، ليكون هذا القرارُ هويةَ هذا التجسيد، أي أنه «تجسيدٌ قراريٌّ»، وتحفيزاً لقوله: رغم أني لست نبياً.. أحاول الخروج من هذا الجسد حيث تستمر فيه الخطيئة فوق خشبتين من نار.. ولعل السؤال يتولى هنا مهمة الكشف: هل كان الشاعر زهير حسن في مجموعته الشعرية «قلب مصلوب» ينشد الصلب مع الذات، أم كان يعزف على وتر ربابته أغنية الوجع الشهي ووحدته اللامتناهية؟ أم تراه استعذب الصلب وأراد أن يصلب الذات مع العالم لديه، مفترضاً عزلة زمانية ومكانية في العالم الذاتي الذي قرر فيه أن يكون مصلوباً مع قلبه؟ ولنا أن نتساءل عن السبب الجوهري لهذا الصلب، إن سيمولوجيا العناوين تجعلنا نقف في حيرة من أمر الشاعر، لنتخيل لماذا جنح الشاعر إلى صلب نفسه في المتاهات؟ إن مفارقة العناوين ودلالتها الرامزة، تحيلنا إلى توقّع العديد من المفاهيم الأولية حول هذه الشخصية المصلوبة فوق خشبتين من نار والتي آثرت الصلب بديلاً عن حصار أخوة التراب. إنَّ الأسئلة تطرح افتراضاتها من أجل فك شفرة العنوان الملغزة، والتي تشي بعالم للذات عبر تقوقعاتها وعوالمها المتعبة من حمل السطور بين الفجر والليل الأخير. أما في النص الأخير «أول الغيث» فإننا نرى الشاعر يرمي بنفسه فوق النزيف المر ويوشح ليله الأرجواني حين تموت النار ويستكمل قدَّاسه في تجسيده هذا بمعرضِ صورٍ لفظيةٍ لمعشوقته، ويفتتح شريط معرضه بالفعل البصريِّ: «خذيني فوق النزيف المر أرتمي أوشح ليلك الأرجواني بأنفاسي». ثم يمضي بمعاينة الصور قائلاً: يتسامى فوق الأفق القريب البعيد فوق براعم الغسق يرف بجناحين من ورق يعصر أنفاسه الليل الطويل. وهنا نلاحظ أن جميع صور هذه المجموعة هي صور مُطْلقة غير محددة: «هي التي نبتت تحت شطآن الدموع تسابق الخمر في ليل السفر الطويل تتسلق هضاب الذاكرة. والصور كانت كما أرادها الشاعر لحناً موشى بالزبد وكصهيل الموج تظهر عبر الأفق، وربما الشاعر يريد أن يعطي فلبه المصلوب بُعداً كونياً، إذ لم نرَ بين هذه الصور صورةً محددةً، فكل الصور مطلقة كما أشرنا بما فيها صورة «سمراء» فهي ليست صورة امرأة عادية، إنما هي صورة لأنثى يلبس الياسمين بياض فتنتها وهي من صنع الشاعر بدليل أنه نكَّر هذه اللفظة في سياقها. إن شعر زهير حسن ثريٌّ بالمفردة العاشقة وبدت كمملكة بلا أسوار.. والأريج يطوف حول بيوته العتيقة ويلتمس الدفء وينشج زفرات عاشق تعب من الانتظار.. هي حديقةُ عشقٍ واحدةٌ ومستمرَّة تفورُ ألفاظُها دلالةً أمام موت المرايا وتتجلى. الملكة التي تأخذنا معها إلى مواعيد دلالاتها المخبأة بمهارة الشاعرِ/ العاشقِ الذي يجيد الاختباء، ويجيد الظهور أكثر عبر «قلب مصلوب». |
|