|
ملحق ثقافي ويمضي المشاهد بقية العام في عملية اجترار هذه الأعمال عبر المحطات التلفزيونية ليتسنى له مشاهدة مسلسل لم يتح له مشاهدته في رمضان.
عندما نبحث في سبب هذه الظاهرة الرمضانية، نرى أن النصوص أصبحت مشروطة مثل أنها يجب ألا تقل عن 30 حلقة، لتناسب مع طبيعة الموسم الرمضاني، فيغلب على المسلسل طابع الإطالة المتعمدة، وبطء قاس في الإيقاع، ومبالغة في عرض المشاهد الفقيرة، و»تحشى» بحوارات وأفكار ومشاهد بقصد ملء الفراغ، ناهيك عن تسطح الشخصيات والمشاهد، لأن الخيال والتعقيد يقع ابتداء في التكثيف والبلاغة التصويرية التي يستغني عنها لغرض الإطالة وتقليل التكاليف، ولأن العمل الروائي يحتاج التعبير عنه إلى جهد درامي وإخراجي استثنائي مكلف لذلك غير مرغوب فيه أو لا يصلح أبداً، لذلك تستبعد الأعمال الروائية الناجحة والقوية، ليكون البديل اختيار أعمال لم تخضع للتنافس ولا جربت في سوق النشر والتوزيع والقراءة، بل وتكتب وتصاغ على النحو الذي يبسّط عملية الأداء والتصوير والإخراج، ويقلل تكاليفها إلى الحد الأدنى. وبسبب ضغط العمل والوقت، فإن الأعمال غالباً ما تكون قد أعدت على عجل، اعتماداً على قبول المشاهد بكل ما يعرض أمامه أو يفرض عليه، ما جعل الدراما تعرف أقزاماً، وجهلاء، وعديمي الخبرة لا علاقة لهم بالأدب والفن، سوى العلاقات الرسمية الشللية والشخصية، وخاصة مدراء الإنتاج.
هذه المقدمة لا تنفي أن الدراما العربية وخاصة السورية، تتضمن إيجابيات كثيرة وأنها بخير وعافية، رغم «الإرهاب» في بعض المحافظات، وتشهد زخماً جيداً يدل عليه العدد أو الكم من الأعمال التي يتم تصويرها، والقدر الكبير من الأفكار والصور، واللمسات الإبداعية الجديدة، والتطور في الإعداد والتصوير والإخراج، واستحضار التاريخ، والتحديات والتحولات الكبيرة، التي تجري على المجتمعات والدول، والأفراد أيضاً، وهي مؤشر ينبع من رغبة وإرادة لدى القائمين على محطات التلفزيون، والمؤسسات الإعلامية، على إنتاج أعمال درامية جميلة، تستحق المنافسة في المهرجانات العربية. ولكن الدراما السورية، التي وظفت الوحدة اللغوية العربية جيداً، واستفادت من انتهاء احتكار الفضاء، بحاجة إلى أن تجتاز قواعد التسويق الجديدة، التي تفرض توقيت المسلسلات في رمضان، وأن تكون ثلاثين حلقة بالتمام والكمال، وربما تحتاج إلى تحول استراتيجي باتجاه السينما، لتحتكم مباشرة إلى الجمهور، وتعتمد على التذاكر والوسائط الفردية للعرض، وتكسر قاعدة الاعتماد الاستراتيجي على المحطات التلفزيونية في التمويل والتسويق، لأنها مهما كثرت، لن يكون سوقاً ينشئ تنافساً وعرضا وطلباً يطور الدراما ويجعلها تحت المراقبة والاختيار. الإرهاب كنموذج درامي ربما يصلح «الإرهاب» مثالاً أو حالة دراسية لملاحظة السلوك الإعلامي والتسويقي للدراما العربية ومحاكمة الفلسفة والرؤية المحركة لهذه الأعمال، فقد احتل الإرهاب مساحة واسعة من الدراما، وربما كان للمرة الأولى المحور والموضوع الأساسي الذي يدور حوله مسلسل طويل، لكن اللافت، أن الدراما العربية في معالجتها للإرهاب ومكافحة الإرهاب، لم تخرج عن أساليب تسويق الشامبو والعطور، فتقديم الإرهاب على هذا النحو المبسط وفي هذا السياق من التعامل الإعلامي والدرامي والاستخباري مع ظاهرة الأصولية والعنف، يكاد يندرج في حراك الإعلام والسياسة ودوامة الاستدراج والتضليل التي تتحول إلى دائرة لا يعرف لها بداية ولا نهاية، فيغرق الناس في موجة من المعالجات والصور والأخبار والتحليلات والمقابلات والتحقيقات والمعلومات، والتي تكون على قدر من الضخامة والتكرار لا يعود أحد معها قادراً على الفرز والتحليل والتمييز بين المهم والأقل أهمية وعديم الأهمية. وأقتبس هنا للتفكير والتأمل جزءاً من دراسة للفيلسوف الفرنسي «جان بودريار» للإرهاب، فهو يقول «نحن «الغرب» الذين أردنا هذه الأحداث وإن ارتكبها «هم» وإذا لم ندرك ذلك يفقد الحدث كل بعده الرمزي، فيبدو حادثة محضة نفذها بضعة متعصبين يمكن القضاء عليهم وإزالتهم من الوجود، والحال أننا نعلم جيداً أن الأمر ليس كذلك». الحادث برأي «جان بودريار» يتعدى بكثير مجرد الحقد، على قوة عالمية مسيطرة، فمن المنطق أن تكون شريكة في تدميرها الخاص، فالغرب وقد تصرف كما لو أنه في موقع «الخالق» ذي القدرة الكلية والشرعية والأخلاقية المطلقة يغدو انتحارياً ويعلن الحرب على نفسه وقد كان انهيار برجي مركز التجاري تواطؤاً غير مرتقب. فالنظام الذي وضعته هذه القوة العالمية، هو الذي أنشأ الشروط الموضوعية لهذا الرد العنيف المباغت، وباستئثاره على كل الأوراق فإنه يرغم الآخر على تغيير قواعد اللعبة، فهو رعب مقابل رعب، ولم يعد هناك أي أيديولوجيا، فقد أصبحنا بعيدين عن كل أيديولوجيا وسياسة، فالطاقة التي تغذي الرعب لا تعبر عنها أيديولوجيا، ولا أي قضية، ولم يعد الأمر منوطاً بتحويل العالم كما تهدف الحركات الأيديولوجية، ولكن نظام القوة العالمي المهيمن هو الذي يهدف إلى ذلك، ولو كان الإسلام مسيطراً على العالم لنشط الإرهاب ضد الإسلام، ذلك أن العالم هو الذي يقاوم العولمة، والإسلاميون يعبرون عن كل واحد في عالم يناهض العولمة التي تحتكر القوة. إن الدراما العربية ابتعدت عن محاولة الفهم العميق للظاهرة، وشغلت بالمخاطبة الدعائية للجمهور على نحو لا يخرج عن أسلوب الأصوليين أنفسهم، فكلاهما رؤية أحادية، لا تريد رؤية المشكلة وفق الأسئلة الحقيقية المكونة لها، ولا تناقش وترجح الإجابات الكثيرة المعقدة والمتفاعلة. هل الإرهاب والعنف عملية استجابة ميكانيكية لنصوص يساء فهمها أو تفهم فهماً صحيحاً؟ هل يعود الإرهاب إلى هوس وتطرف ديني؟ هي نصوص موجودة منذ ألف وأربعمائة سنة، وتنطبق على مجتمعات وأمكنة لا يدور فيها إرهاب، وتتجنب دولاً هي أجدر بالعنف وفق منطق النصوص الذي يقدم على أنه يفسر الإرهاب. أفكار عملية ومقترحات هل يمكن أن نخرج في نهاية هذه المحاولة بأفكار عملية ومقترحات يمكن أن تطور الدراما العربية؟ أو تعبر على الأقل عن مخاوفنا ومطالبنا أيضاً تجاه الدراما العربية؟ لنحاول. إذا تأملنا مجال الأعمال التاريخية التي بدأت بالظهور في السنوات الأخيرة، ولاقت اهتماماً من الجمهور، سنجد أن ذلك جسد تطوراً لافتاً بسيادة مرحلة، اتسمت بضعف بعد هذا النوع من الأعمال الدرامية. وتتميز هذه الأعمال بالجهد المعرفي ودقة المعلومات وصحتها بالإضافة بالطبع إلى جمال الدراما والسرد واللغة في العمل التاريخي. لقد نجحت الدراما السورية نسبياً، في جعل التاريخ مصدراً لأجمل الأعمال الدرامية وأهمها، نقل الأعمال التاريخية من الحالة النمطية والارتجالية وتقعر اللغة وضعف المعلومات والتناقضات، والعيوب التي شابت معظم الأعمال التاريخية. وفي سبيل مزيد من التجويد، يمكن أن نقترح أن تقوم الأعمال التاريخية على بحث تاريخي، ومراجع مناسبة وكافية، وأن يقدم العمل الأحداث، والشخصيات، على النحو الأقرب إلى الصواب والرؤية الأكثر قبولاً، وترجيحها، وألا يصادم المعتقدات والروايات التاريخية السائدة والراجحة، ولا يعتمد على الروايات المختلفة والمرجوة، إلا إذا قدم حجة مقنعة وكافية تبرر عرضها، وأن يعكس العمل بجمالية ودقة البيئة التي ينتمي إليها ويعالجها بدءاً من اللغة والأمكنة والعمارة، والمهن، والملابس والأطعمة، والسلاح، والأدوات، والأحداث التاريخية، والعلاقات الاجتماعية والسياسية السائدة، والاقتصادية والتجارية، وغير ذلك، وأن يستخدم اللغة المناسبة، وفي الوقت نفسه، المحافظة على عفوية اللغة وجمالها وبساطتها أيضاً، بحيث تكون مفهومة للمشاهد، دون أي خلل عند اقترابها من واقع المسلسل. ويجب أن يخلو النص قدر الإمكان، من الإسقاطات والرؤى السياسية والعقائدية، وبخاصة الرؤى والمواقف الحديثة والمعاصرة، وأن يكون النص معالجة تاريخية ومعرفية منهجية وليس تعبيراً عن موقف عصري مسبق وربما لم يكن معروفاً في الفترة التي يتحدث عنها المسلسل «قومي، سلفي، مذهبي، غربي استشراقي» وبالطبع فقد يصعب تجنب ذلك تماماً، ولكن يمكن التقليل من النزعة الأيديولوجية في كتابة الأعمال التاريخية. تزوير وارتجال واستغفال وفي سياق آخر انتشرت أيضاً الأعمال الدرامية «البدوية» والقائمة على التراث البدوي، والقصص البدوية والبيئة البدوية، ثم ظهرت أعمال يمكن تسميتها بالبدوية التاريخية، والتي تعرض سيرة أشخاص وأحداث تاريخية معروفة ومهمة، ولكن في إطار بيئة بدوية، وهي وإن كانت تسمى بدوية، فإنها تندرج في إطار الأعمال التاريخية، وتنطبق عليها شروطها ومواصفاتها، ويجب أن تتفق حالة التزوير والارتجال والاستغفال التي يمارسها كتاب ومنتجون في هذه الأعمال، فالبداوة ليست مجالاً مستباحاً للتخيل غير المبني على التاريخ وفهم الوقائع، والأحداث، والتراث، والعادات، والتقاليد. النص العصري بالطبع فإن الأعمال المعاصرة هي الجزء الأكثر أهمية وحضوراً في الدراما السورية، وهي تستند غالباً إلى رواية أدبية أو معالجة لأحداث تاريخية وسياسية ومعاصرة، أو قضايا اجتماعية قائمة، وهذه تكون المهمة الأساسية المفترضة للدراما، حيث يعتمد النص المعاصر بشكل رئيسي على رواية أو مجموعة خطوط روائية تشكل البنية الأساسية للعمل الدرامي، وستكون أهمية العمل وقيمته بمقدار أهمية النص والرواية وقيمتها الإبداعية والجمالية وملاءمتها للدراما ومعالجته للقضايا الاجتماعية والسياسية بذكاء وواقعية وإبداع، ولذلك فإن تقييم النص المكتوب يكون أكثر خطورة وأهمية، ففي حين يعتمد العمل التاريخي على الأحداث والتراث المعرفي والتاريخي فإن العمل المعاصر والأدبي يعتمد كلياً على النص وما يتضمنه من إبداع وإضافة. وفي غمرة التحولات الكبرى، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، التي اجتاحت العالم، ومنها بطبيعة الحال الوطن العربي، فقد غلب على النصوص الأدبية والدرامية المعاصرة البعد والغياب الكبير عن الواقع الجديد المتشكل، وهذا يدعو للبحث عن أفكار وشروط، يجب استحضارها مسبقاً للتخطيط للأعمال الدرامية، ذات المحتوى المعاصر وتقييمها، يجب أن تقوم على نص روائي جميل ومبدع، يصلح للنجاح بذاته لو نشر في كتاب، ويفضل أن يقوم على أعمال روائية نجحت بالفعل. فالأعمال الروائية من هذا القبيل تنشأ وتشكل في بيئة مدنية، وليس في الريف والبادية، كما تساعد بيئة المدينة على إنشاء مشاهد غنية ومعقدة ومتداخلة، ويمكن أيضاً بناء مجموعة من الشخصيات الرمزية دون مسؤولية قانونية، ويفضل تسمية الأماكن بمسمياتها، حتى في المشاهد والأحداث يعني بيئة المكان «مدينة، حي، شارع، مدرسة، جامعة، مقهى، شركة، مؤسسة، سجن، منزل» بدقة وواقعية، وأن يوضح النص بدقة الفترة الزمنية التي يكتب عنها، ويعكسها بأمانة وتفصيل وذكاء «العمارة، اللباس، الأثاث، الموضة، الأحداث، اللغة، العلاقات، الأفكار السائدة». وفي معالجة الأحداث والسياسة، يجب ملاحظة الواقع كما هو، والدقة في عرض الشخصيات السياسية والحديث عنها، بحيث يتجنب النص مظنة التشهير، والتجريح، والافتراء، ويعرض النص الوقائع والظواهر والقضايا والمشكلات كما هي وبدقة، لأنه لا يتحدث عن عالم افتراضي، ولكنة واقع يعرفه المشاهدون ومعظم الناس، وأن يلاحظ النص التحولات والمستجدات ويهتم بالقضايا المعاصرة، ويتجنب الحالات والقضايا التي انحسرت ولم تعد قائمة. ويجب أن يتمتع النص، ببنية سردية وعلاقات منطقية وواقعية، على سبيل المثال «بعض القضايا والأفكار النمطية التي لم تعد موجودة، ولم يعد ملائماً معالجتها لأنها أصبحت تاريخية، أو القضايا والأفكار الجديدة بفعل تطور المعلومات والاتصالات». وبناء على هذه الرؤية، فإننا نتطلع إلى أعمال درامية، تطرح قضايا وأفكاراً جديدة، وتعالج التحولات والتطورات القائمة، وتخلو من التكرار وتتجنب الحديث عن الحالات والقضايا التي لم يعد لها وجود، وتكون على مستوى متقدم من الجودة والأصالة والإبداع. |
|