تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


العلوم الاجتماعية في عالم ما بعد الكولونيالية

ملحق ثقافي
2012/9/4
حاتم حميد محسن/ لندن:في عام 1970 تنبّأ الكاتب ألفن غودنر «Alvin Gouldner» بوقوع أزمة في السوسيولوجيا، وذلك في كتابه «الأزمة القادمة في السوسيولوجيا الغربية».

وفي عام 1996 قام عمانوئيل ولرستن «Immanuel Wallerstein» بتشكيل لجنة برئاسته سميت لجنة كلبانكين «Gulbenkian Commission» تولّت مهمة إعادة بناء العلم الاجتماعي، وأصدرت تقريرها الشهير «Open the social sciences» الذي دعا إلى إعادة تفكير جذرية وشاملة في الافتراضات الأساسية للعلوم الاجتماعية.‏

كلا الفيلسوفين غودنر وولرستن تمكّنا بجدارة من التنظير حول العالم الاجتماعي. ولكن ما الذي يمكن أن نتعلمه من مخاوف هذين المنظّرين؟ هل صحيح أن القرن الحادي والعشرين يتطلب نوعاً من التفكير الجديد في الطرق التي نتبعها لبناء العلوم الاجتماعية؟ الجواب نعم. لو أردنا أساساً كافياً لفهم عمليات التغيير الاجتماعي المتسارعة المحيطة بنا محلياً وعالمياً، سنحتاج لإعادة التفكير في المفاهيم والطرق التي نستخدمها في النظرية الاجتماعية. ولو أردنا امتلاك أساس قوي في محاولتنا التأثير على بعض تلك العمليات كي نتجنب ما ستقود إليه من نتائج كارثية، عندئذ سنحتاج لنكون انتقائيين أكثر في تفكيرنا حول العوامل الاجتماعية وتفاعلاتها.‏

ما هي الاعتبارات التي دفعت غودنر وولرستن وغيرهما من النقاد إلى الاستنتاج بأن علم الاجتماع بحاجة إلى إعادة التفكير؟‏

ركزت مخاوف غودنر في النصف الأول من القرن العشرين على ما يسميه علم الاجتماع الأكاديمي. الثلثان الأولان من الكتاب جاءا على شكل نقد للنظريات السوسيولوجية التي سيطرت على علم الاجتماع في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، مثل نظريات النظام الاجتماعي، التنمية الهيكلية، طريقة عمل النظام الاجتماعي، الوظيفية، والتأثير العميق لـ Talcott Parsons آنذاك. إذاً الأزمة التي يشير اليها غودنر هي في الواقع أزمة علم الاجتماع الوظيفي «مع أنه يشير إلى اعتقاده أن علم الاجتماع الماركسي هو أيضاً يتجه نحو أزمته». إن علم الاجتماع يحاول فهم المجتمع كنظام، ويتوقع من الظاهرة الاجتماعية أن تكون شبيهة بالقانون، وهو يقوم بالتجريد النظري الكلي من التاريخ كسياق وكعملية.‏

إن جوهر نقد غودنر هو أن الوظيفية functionalism تفترض ضمناً أن الأنظمة الاجتماعية قد بلغت ذروتها في تكوين المؤسسات الحاكمة للحياة الاجتماعية. التنظيمات الاجتماعية تقود إلى أعظم منفعة اجتماعية. لكن غودنر يشير إلى أن هذا النمط من التفكير النظري بطبيعته يجعل من الصعب التعامل مع ظروف التغيير.‏

كانت الولايات المتحدة الأمريكية في الستينات من القرن الماضي منشغلة بوضوح في عملية تغيير عميق في مؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. لذا فإن علم الاجتماع الوظيفي كان غير مهيأ لفهم وتوضيح معظم السمات الأساسية للحياة الأمريكية في فترة ما بعد الحرب الفيتنامية - مثل الاحتجاجات الواسعة، التباين العرقي، اتساع حجم الرفاهية الاجتماعية، الفقر في المناطق الحضرية، وعدم قدرة الهياكل السياسية على التأقلم.‏

هذه هي النقطة التي تحدث عنها كل من جوليا آدم وإليزابيث ستيفاني وآن شولا في كتاب «إعادة صنع الحداثة: السياسة، التاريخ، وعلم الاجتماع». إن جوليا آدم وزملاءها الكتّاب عرضوا تفسيراً متفائلاً للمستقبل الذي يمكن فيه لطرق السوسيولوجيا التاريخية المساهمة في تحسين فهمنا للمجتمع الذي نعيش فيه. إن سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية، والصراع، والتغيرات التي استبدلت سوسيولوجيا الأنظمة، والتكيفات الوظيفية بين المؤسسات الجوهرية في المجتمع، والتغيير بدلاً من الركود، كان كل ذلك هو الخيط المركزي. وإلى جانب التأكيد على التغيير جاء التركيز السوسيولوجي على التاريخ.‏

في الحقيقة، ربما يقول أحد أن الأزمة التي تنبأ بها غودنر في الواقع انتهت بعد التطور المتسارع في بحوث علم الاجتماع التاريخي ونظرية التعبئة الاجتماعية والدراسات ذات المستوى المتوسط للعمليات والمؤسسات المحددة تاريخياً.‏

الآن ماذا عن مخاوف ولرستن عن السوسيولوجيا المعاصرة؟ هناك عدة نقاط تبرز في هذا الإطار. أولاً، هناك نقد لنزعة قوننة العلوم «nomothetic» «فكرة أن العلم الاجتماعي يجب أن يكتشف القوانين الاجتماعية». في الواقع، يلاحظ تقرير اللجنة بأن حتى هذا الهدف واجه تحدياً في العلوم الطبيعية حينما ننظر في ديناميكية الأنظمة غير الخطية non-linear dynamic systems:‏

«اليوم نرى العديد من علماء الطبيعة يجادلون بأن العالم يجب أن يوصف بطريقة مختلفة كلياً. هو عالم غير مستقر، شديد التعقيد، تلعب فيه الاضطرابات دوراً كبيراً، التساؤلات الكبرى فيه تتعلق بتوضيح كيفية بروز هذه التعقيدات».‏

بالتأكيد تبين الظاهرة الاجتماعية هذا النوع من اللاخطية المعقدة. لذا من غير المحتمل أننا سنكتشف «قوانين المجتمع» القوية بحيث تفسر وتتنبأ بالنتائج الاجتماعية.‏

ثانياً، هناك التقاء بين العلم الاجتماعي والتاريخ، حيث أن السوسيولوجيين يعترفون بأن الظاهرة التي يدرسونها هي دائماً لها سياق تاريخي، والمؤرخون يعترفون أيضاً بأن علماء الاجتماع ربما كشفوا عن العمليات شبه العامة التي يمكن أن تساعدهم في الوصول إلى تفسيرات للنتائج التاريخية المحيرة. هذا يتفق بدرجة ما مع نقد غودنر للوظيفية.‏

وفي إشارته لجيل جديد من علماء الاجتماع، ذكر ولرستن:‏

نقدهم للعلوم الاجتماعية السائدة تضمّن التأكيد بأنهم تجاهلوا حتمية التغيير الاجتماعي، مفضلين ميثولوجيا الإجماع، وأنهم كشفوا عن تأكيدات ذاتية ساذجة ومتعجرفة في تطبيق المفاهيم الغربية في تحليل ظواهر وثقافات شديدة الاختلاف.‏

ثالثاً، لاحظ ولرستن أن العديد من المفاهيم الكبيرة في بحوث العلم الاجتماعي في الستينات هي محل شك عميق، فمثلاً فكرة «التحديث كبناء» نفهم منها عمليات التنمية لعالم ما بعد الكولونيالية.‏

ومن البحوث الهامة في هذا الصدد ما قام به Arturo Escobar في تحقيقاته الجوهرية في فرضيات التقدم والتنمية والتحديث التي سيطرت على معظم أفكار التنمية في الستينات.‏

رابعاً، أثار كل من ولرستن وتقرير اللجنة أسئلة حول الحدود الصارمة للعلوم الاجتماعية والتأكيد على أهمية تحفيز البحوث الاجتماعية العابرة لحدود مختلف الحقول المعرفية.‏

إذاً ما نوع السوسيولوجيا الذي يجب البحث عنه كي نفهم التغير الكبير والمعقد المحيط بنا – مثل المدن الكبيرة، العولمة، الشبكات الاجتماعية، الإرهاب، المدارس الفاشلة، التحولات الاقتصادية أو انتقال الأوبئة المعدية؟‏

ربما يكون الجواب كالتالي: علينا أن نكون انتقائيين في النظرية والطريقة. يجب تشجيع التعاون بين الحقول المتعددة. ضرورة السماح بعدم التجانس والمطاطية في الظاهرة التي ندرسها. الاهتمام الكبير بالعمليات التاريخية والسياق التاريخي، ليس لأن الماضي يقرر المستقبل، وإنما لأنه يقيده. يجب أن ننظر بعناية في الآليات القائمة التي تؤدي إلى النتائج الاجتماعية المرغوبة. لا بد أن نكون مستعدين لتجزئة العمليات الاجتماعية الكبرى إلى عناصرها الانفرادية. علينا أن نكون أكثر استعداداً للاهتمام بالمدى المتوسط للظاهرة، بدلاً من الذهاب بعيداً في التعميم البطولي المفرط والثابت عبر الأوقات والأمكنة والثقافات. سوف نحتاج إلى أفضل علم اجتماعي لمعالجة تحديات القرن الواحد والعشرون. إن ما تبقّى من الوضعية والوظيفية والطبيعية لن يفيدنا في الوصول إلى ما نحتاجه من الشبكات الفكرية الإبداعية.‏

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‏

Daniel Little أستاذ الفلسفة في جامعة مشيغان. آخر كتبه «مساهمات جديدة في فلسفة التاريخ springer,2010 « وكتاب «مستقبل التنوع palgrave,2010 « بالاشتراك مع staya mohanty.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية