|
ملحق ثقافي إضافة لوجود عناصر تكوينية متعارضة أو متناقضة في الوقت نفسه. وكثيراً ما حاول بعض الأنثروبولوجيين تأطير هذه الظاهرة في وضع تصنيفات عامة للحضارات ككل - بما هي منتجات مادية ولامادية معاً - أو تصنيفات خاصة للثقافات وحدها - بما هي منتجات لامادية قابلة للتحديد - ضمن البُنى التي تقبل رصد الدارسين خلال فترة زمنية أو حقبة تاريخية. وقد سبق إلى هذه الجهود مؤرخون ومفكرون وقادة وصلتنا آثار محاولاتهم عبر الأخبار التاريخية منذ آلاف السنين، بما يدفع إلى القول إنّ هذا النوع من المحاولات البشرية يتمتع بأصالة ترتبط بوجود الفاعليات العقلية نفسها، إضافة للحاجات العملية التي تفرض وجودها في سياق ممارسة أنشطة الناس أنفسهم، فيما تسير تجمعاتهم البشرية من حال إلى آخر عبر الحياة الجمعية. ويستطيع الباحث المختصّ في كثير من الأحيان أن يبرهن وجود «نماذج مضادة» للتفسير والفهم والتصنيف بين متروكات القدماء والمحدثين من المشتغلين بالشؤون الثقافية، تمثل بدورها «صياغة مضادة» لما يمكن تسميته باستخدام النماذج الحديثة المعتمدة على مقارنة التفصيلات الدقيقة ومضاهاة النتائج المباشرة «ثقافة مضادة» تقف على واحد أو أكثر من أطراف الاختلاف عن الآخر. وتكمن خطورة الثقافة المضادة في أكثر الحالات حين تظهر ضمن المجتمع نفسه، خلال حقبتين متتاليتين أو في حقبة تاريخية واحدة، ولاسيما حين تظهر مولّدات الصراع على رقعة عريضة من نشاط الأفراد والفئات والأحزاب في الدولة. إذ تتأثر العلاقات المجتمعية والسياسات الخارجية في هذه الأوضاع بالتفاصيل الصغيرة، إضافة لتأثرها بالقضايا الكبرى، وتستحرّ قوّة الصراع بين المكوّنات الثقافية حتى تصل درجة إفناء بعضها بعضاً. وينطوي هذا على نوع إضافي من الخطورة، نظراً لكون الثقافة المضادة لا ترتدي دائماً ثوب مخالفة الشائع من ثقافة المجتمع، الذي تتولّد فيه. فهي تتسلّل بطرق شتى إلى مجال الفاعليات المتنوّعة، لتستولي بالتدرّج على ما تغطيه الثقافة السائدة من مفهومات تواصلية بين الناس، وتمتدّ من موقع إلى آخر حتى تتسع صيغتها البديلة وتظهر آثارها. وغالباً ما يتمّ هذا في صور تتمتع بغير قليل من القبول أو عدم الممانعة، التي تفضي إلى الاستيلاء على ما يمكن تسميته شيئاً من «مناطق نفوذ» الآخر، المتمثّل بما هو مطلوب من أطروحات جمعية. وقد غدت المؤسسات السياسية والأحزاب ومراكز البحوث في المجتمع الراهن تقوم بهذه العملية الإحلالية، بعد أن كانت الفرق الدينية والتنظيمات الفئوية السرية وقوى الإخضاع العسكري تنفذها في الفترات التاريخية الماضية. وهذا ما جعل من أعلام الثقافة المضادة في أيامنا تحتاج شخصيات رهن الإعداد، تتطلّب غير قليل من التحضير لتكون مناسبة التقديم إلى الجمهور المتلقّي في مجال ثقافي معيّن، عبر حدَث أو ظرف أو مكان، يناسب كلٌ منها الأطروحة التي ينبغي الانقضاض بها على النظير السائد. ولذا دأبت بعض الجهات المعنيّة بهذا النوع من الاقتحام أو السيطرة على بذل جهود متنوّعة، أساسية وفرعية على غير صعيد متصل أو إيهامي، بحيث تبدو الثقافة المضادة امتداداً لرغبة فئة سكانية غير قابلة للتعيين المباشر، ومفتوحة إلى درجة عدم إمكان حصرها وفهم أغراضها بسهولة، فيحلّ الظنّ والتخمين والتوقعات مكان الوضوح والانكشاف، ويطول الزمن بما يكفي لخلط الأوراق وتمويه الوجوه القبيحة التي قد تظهر بين فينة وأخرى من خلال الممارسة. لقد تسلّلت إلى مجتمعاتنا العربية مئات الأفكار في التاريخ والآداب والفنون والدين والاقتصاد والسياسة والعلوم التطبيقية وغيرها آلاف أفكار صنعت ـ بمساعدة الجهات الثقافية والإعلامية الرسمية أحياناً ـ خلال العقود الثلاثة الماضية أرضيةً خصبة لثقافة مضادة، بالمعنى الدقيق للكلمة؛ فهل نحن قادرون على فرزها؟ |
|