تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


شغف حلب عاصمة الثقافة الاسلامية لكل بيت من بيوتها قصة دافئةيمكن سردها

ملحق ثقافي
7/3/2006م
ضيــــــاء قصبــــــجي

حلب المدينة النائية.. أنشودة الزمن المثير.. الجاثمة شمالي سورية كأقدم مدينة في العالم.. كتلة من الإبداع الذي صاغته يد البشر.

فإذا نظرنا إليها نظرة سائح، صعد إلى قلعة حلب، وشاهد الجامع ومئذنته.. والمسرح الحديث.. الذي تقام فيه الحفلات الصيفية.. واطلع على آثار القدامى من أقوام تعاقبوا عليها.. ثم انحدر منها إلى (خان الشونة) الأثري، بطرازه ودكاكينه القديمة المتجددة، ومحتوياتها الشرقية النادرة من.. نحاسيات، وفضيات، وبسط ملونة، وفراء، وجلود، ولوحات، وأساور، وخواتم من عقيق وفيروز، وياقوت. ومن خان الشونة، وعلى بعد خطوات، دخل سوق المدينة الذي يتشعب ويتفرع بشكل يضيع فيه السائح.. لكن نسمات رطبة تنفذ إليه من كوى مفتوحة للتهوية في السقف الحجري المغطي لكل السوق والذي يستغرق المسير فيه يوماً أو أكثر... ابتداء من القلعة حتى (كلة معروف) وباب انطاكة وسوق المدينة الذي هو من أقدم وأجمل أسواق العالم، يشبه المجمعات الحديثة التي يجد فيها المرء كل حاجياته.. أما في الشتاء فتغلق هذه الفتحات المحفورة في سقف يبدو على شكل قباب وبأحجار ناتئة، فيشيع الدفء.. لتجار حلب.. ومريدي السوق.. وكل فرع له اسم خاص يلائم مبيعاته... ومن الأسواق المشهورة.. سوق العطارين.. سوق تفضلي.. سوق الشام، سوق النحاسين، سوق الحبال، سوق المجيدية، سوق الخميس، سوق الجمعة، سوق الدهشة. عندما يغادر السائح خان الشونة يدخل مباشرة إلى سوق (الزرب الذي تباع فيه أغطية المناضد المطرزة.. مع قطعها الثمانية.. وفراء الخراف المصبوغة.. والصالحة لتزيين أراضي الغرف في الشتاء.. والأقمشة التي يبتاعها القرويون الواردون من ضيع حلب القريبة.. وسجاجيد الصلاة.. ثم ينعطف السائح إلى سوق العطارين ليجد الطعام من كباب حلبي مشوي.. والشراب من سوس وتمر هندي و(عيران) رائب اللبن... ثم يشم رائحة البهارات، والزعتر، والقرنفل، النعناع، والكمون، والقرفة، وورق الغار.. والحناء الحمراء والسوداء.. والتوابل الهندية. ثم يدخل سوق الحبال.. فيجد الدكاكين منخفضة، مسطبة فوق الأرض وفيه كل أنواع الحبال حبال البئر.. والربط والحزم.. والمبرومة مع خيوط النايلون للزينة.. ويجد أيضاً أبواب من حبال الخرز والزجاجات وحوامل أصص الزرع المعلقة والمدلاة من الأسقف.. ثم يمر في سوق الذهب فيجد واجهات الحوانيت الشفافة التي يبرق الذهب خلفها، كالأساور المضمومة ضمن أسياخ... ومعلقة بأنواع وأشكال محدثة وقديمة كأسوار الزرد والمبرومة.. والخواتم، توضع فوق طبق من الشيفون كحلي اللون. وسوق الذهب له تفرعات كثيرة أيضاً وساحات مثل ساحة ذهب (حنيفة). وفي سوق (تفضلي) يجد السائح كل أنواع الأقمشة من أقمشة مقصبة لثياب العرائس.. ومطرزة وهفهافة وثمينة.. وبسيطة.. وجوخ، وكتان، وحرير هندي، وساتان. وفي المدينة هناك بائع العطورات النحيل.. الصامت دائماً.. والذي يمضي وقته إما بالبيع.. أو بالمطالعة.. وهو يمتلك ذاكرة قوية فيحفظ كل ما يقرأ..وكأنه تاريخ بحاله.. يحتفظ بساعة رملية أثرية ويصف زجاجات الكولونيا فوق (الجام) كل واحدة برائحة مختلفة عن الأخرى.. لا يساوم. لا يربح كثيراً.. متواضع لا يحب التغيير.. يجلس ساعات كثيرة منذ الصباح حتى المساء على كرسي مرتفع الأرجل ليس له مسند، ويبيع عدا العطر.. الصابون المطيب ذا الرائحة العطرية.. والليف وأكياس التفريك.. ويتسلى قليلاً مع جيرانه.. مثل بائع الخيوط الذي أمامه.. وبائع الأقمشة الذي قربه وهم أصدقاء عمر أي منذ ستين عاماً وهم على مثل هذا الوضع.. يمر من أمامهم الباعة الصغار من الأطفال.. الذين يحملون البسطات الصغيرة التي يعلقونها بحامل حول أعناقهم.. ويلحون على المارة بالشراء.. يبيعون اللبان، وملاقط الغسيل، ودستات الأبر والدبابيس واللستيك.. أو الكعك الطازج.. ويرى السائح وهو في الطريق مدخلاً فرعياً خاصاً بأهل السوق، إلى الجامع الأموي الكبير، الذي بني في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، فيطل إليه ليرى الباحة الواسعة، والبركة وحولها حنفيات الوضوء والطيور، ويجد السائح في كل فرع من سوق المدينة ما يلزمه أو ما لا يلزمه من خرز ورياش، ومناشف وأزرار ، كمار وطاقيات.. وملابس جاهزة للعرائس.. وما تلبس الصغيرات في العرس.. وما يوضع على الرأس من أغطية للمتحجبات.. وملابس مطرزة للصلاة.. وأقمشة للتسائر وغرف الجلوس.. والأرائك والجلابيب. وفي (المحمص) تباع الجزم الشتوية الواقية من المطر.. ومحافظ المدارس وأحذية الأعياد.. والبوابيج.. والشحطات الرجالية والنسائية.. تصنع هذه الأشياء ثم تورد إلى أسواق أخرى من حلب وتباع كذلك الملابس القطنية صناعة حلب المشهورة بقطنها الجيد. وإذا أراد السائح أن يسهر ليستمع إلى الموشحات، ورقص السماح، والقدود الحلبية.. وهو يأكل الفستق الحلبي الذي يطقطق، ويتشقق ليظهر قلبه الأحمر تحت ضوء القمر في ليالي الصيف، فبإمكانه أن يستمع إلى الموشحات الأندلسية.. فيستمتع بالطرب الشرقي الأصيل. حلب التي وجدت فيها أول مطبعة، وأول روائي سوري شكيب الجابري.. وأول أديبة، نديمة منقاري وأول مرسم للفنون التشكيلية مركز فتحي محمد. وحلب ومتحفها الزاخر بالآثار، وقطع النقود، وتمثال الإلهة عشتار.. وحول حلب.. هناك قلعة جبل سمعان.. الناسك المسيحي الذي عاش على عامود والتي أصبحت مزاراً. حلب ..وحديث يطول ولاينتهي.. لكل بيت من بيوتها.. سواء في المربع العالي، أو القبو المنخفض، قصة دافئة يمكن سردها. محيرة وعجيبة أنت أيها الطين والعجين.. الذي يتشكل في كل زمن بشكل مغاير، ويجعلك مختلفة عن المدن الأخرى. الطين هو آثارك التي تشهد على تاريخك وقدمك وعظمتك..والعجين الذي يشهد على تغيرك وتجددك مع الأيام.. فأية مدينة في العالم.. أنشئت منذ آلاف السنين.. ثم استمرت فيها الحياة حتى الآن.. يا أنت .. ياحلب ؟؟!!‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية