تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الاستماع الموسيقي ومفهوم التذوق

ملحق ثقافي
7/3/2006م
علي الأحمد

وقد تبدو علاقة الاستماع بالإبداع الموسيقي علاقة متلازمة ولصيقة بالرغم مما يبدو في كثير من الحالات على تضاد وتباعد في هذه العلاقة حيث الإبداع يرتسم وتتحدد معالمه ضمن النشاط الإيجابي المثمر والراقي للإنسان المبدع والاستماع عكس ذلك،

لكن من الثابت هنا أن الاستماع وعلى مدى تاريخه الطويل استطاع أن يحفظ له مكانة في عملية الإبداع والإنتاج الموسيقي ككل، بكونه عنصراً مهماً وراسخاً في العملية الإبداعية بمجملها بعد أن تتوفر له المعرفة والخبرة وتراكم التجربة السمعية التي يتم رفدها على الدوام بمفردات عديدة ضمن الإطار التربوي والنقدي والتي تتأطر جميعها عبر ما يسمى (الماضي الموسيقي للمستمع)، ولعل المدى الواسع من الاستجابات والانفعالات التي يحوزها هذا المتلقي إزاء الفعل الموسيقي والفروق البينة ما بين استجابات هذا المتلقي أو غيره لطبيعة المواد الموسيقية المتشابهة هو أكبر دليل على الفروق الفردية في المعرفة والعلم وتراكم الخبرة السمعية وهو ما يفسر تفاوت الخبرة في الاستماع وعلاقته بالتطور الموسيقا بين فرد وآخر على وجه العموم، وهذا ما تمتلكه الموسيقى على الدوام حيث القدرة التعبيرية من أهم مكوناتها وبالتالي فإن المتلقي لابد له وكما أسلفنا آنفاً من خلال الخبرة وتراكم المعرفة من أن يمتلك القدرة والوعي على الاستجابة المثلى له وقد حدد كتاب ومفكرون وفلاسفة كبار ومن بينهم الفلاسفة العرب القدماء أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وجماعة إخوان الصفا والإمام الغزالي والعديد من المتصوفة وغيرهم أنواع عديدة من الاستماع والتلقي الموسيقي وهو ما تواتر بشكل تصاعدي إلى يومنا هذا حيث تأثر العديد من الفلاسفة في العصر الحديث بالمقولات الفلسفية القديمة مما قادهم إلى القول بأن هناك عدة أنواع للاستماع من بينها نوعان على قدر كبير من الأهمية أحدهما يتعلق بأولئك الذين يستمعون إلى الموسيقا استماعاً نشطاً، وثانيهما لأولئك الذين يستمعون إليها كنوع من الخلفية كما يؤكد (ديفيز) في أبحاثه المهمة، والفرق واضح وبيّن، ما بين هذين النوعين من المتلقي ورفد الذائقة السمعية والجمالية بكل ما يغنيها ويزيدها رسوخاً في كوامن النفس البشرية وكما قال أحد الموسيقيين: «اكتمال الإصغاء والتأمل هو بداية الانفعال والتذوق». إن اكتمال هذا الإصغاء لا بد له من مراحل وخبرات وتجبرة مكتملة في أروقة مملكة الموسيقا الساحرة، حيث تذوق هذا الفن ومدلولاته يمر عبر المران والتجربة إلى أن يصل إلى الإحساس بالجمال عبر النفاذ إلى أعماق هذا العالم السوي الجميل، وسبر أغوار الروح الإبداعية للمؤلف الموسيقي وقراءة مقولته الموسيقية في تفاصيل ومفردات العمل ككل بما يخلق حالة وجدانية وحميمية ما بين المتلقي المتذوق ومبدع هذا العمل، ومن هنا نرى أن هناك من يتأمل العمل الموسيقي أو الغنائي دون الغوص في هذه التفاصيل عكس النقاد المبدعين الذين يذهبون إلى أقصى درجات التأمل والتحليل بما يشبه المختبر العلمي الدقيق الذي يشرح كل خلية موسيقية ومحيطها النغمي وبالتالي تقييم العمل على ضوء نتائج هذه التحاليل الدقيقة إنه أقرب إلى ما يكون بالبحث الفلسفي في مفهوم الكتابة الموسيقية والصوتية وما يمكن أن يخلص هذا البحث إلى نتائج تلعب دوراً حاسماً في إثراء الذائقة وطقوس التلقي والاستماع يقول المايسترو (عزيز الشوان) في كتابه الممتع: الموسيقى «تعبير نغمي ومنطق»19: «.. تضم الجماهير التي تتلقى العمل الموسيقا نوعيات متباينة من الأفراد، فمنهم من يكتفي باستماع سطحي للعمل يقف عند إدراك المناخ العام ولا يتعداه للتأمل أو التفكير في المضمون أو متابعة خطوط النسيج النغمي ليتبين الجهد الخلاق الذي بذله المؤلف وما وضع في من عصارة ذهنه ورحيق وجدانه أي أن مشاعره لا تتفتح لتلقي تلك الثمرات، وهناك نوعية أخرى لا يزيد تأثرها بالعمل الفني عن الإعجاب أو الانبهار دون معرفة سبب ذلك أو البحث في أعماق نفسه عن الأثر العاطفي الذي أحدثه فيه ذلك العمل. إن الذي يستمتع بالموسيقا هو الذي يتابعها بتركيز ودقة حتى تأخذه معها ليتقابل نفسياً مع نغماتها وينفعل مع اندفاعاتها وهبوطها ويندمج مع تياراتها الدائمة التجدد فتهتز مشاعره ويدرك بسرعة تلقائية مظاهر الجمال ومصادر اللذة الروحية التي هي غاية الإبداع الموسيقي». وبالعودة إلى النتاج الموسيقي العربي المعاصر، نجد أن أحد أهم أسباب تدهور الذائقة السمعية ناتج عن عوامل عدة رسختها التحولات الحاسمة التي ضربت قلب المجتمع العربي، بما انعكس سلباً على طريقة الكتابة والإنتاج الذي تم تأطيره ضمن أبعاد حسية ساهمت في صنعها مفردات العولمة وتيارات الاستهلاك والمجانية بما فرض على المؤلف والملحن العربي عموماً أن يتماهى مع صورها البراقة الخادعة وإيقاعاتها الصاخبة مع غياب تدريجي لروح الكتابة الأصلية وتهميش المفردات لصالح المفردات الخارجية المتمثلة بالتوزيعات الاستعراضية التي اكتسحت مجمل هذه النتاجات في سوق العرض والطلب بحيث لم يعد يعنى بالمناخ الأصيل الذي تربع على عرش الموسيقى العربية إبان القرن الماضي حيث تم استبدال مفرداته بهذه المفردات المعاصرة وبما انعكس بشكل خطير على الاستماع والتلقي ومجالات التذوق التي هي أولاً وقبل كل شيء مشاركة هذا المتلقي للمؤلف فكرياً ووجدانياً وهو ما نفتقده مع الأسف في ظل غياب التربية الموسيقية العربية.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية