|
ملحق ثقافي
هذا الطريق الذي بدا وكأن لا نهاية له، فإن ذكرياته عنه تعلق بظلام الذكريات الممتد خمس سنوات عديدة والواقع فإن « ستيفن» لم ينس تلك الانطباعات المؤلمة حتى عندما شب نحو الرجولة وأصبحت لديه أشياء طبية تستحق أن يفكر فيها. وإلى الآن لم ينس «ستيفن» الطين تماماً، إذ إن صورة «كاتيا» جعلته يفكر فيه دائما وهو في كل مرة يبتسم وعلى الرغم من عدم وجود مادة تدعو للابتسام فهو غارق فيه، لذا فإن كاتيا تتراءى له مع الطين وهو لم ينس أبدا اللقاء الأول الذي رآها فيه. قالت أمه: «ستيفن» الصغير أمسك جيدا ثوبي وإلا ستغوص في الطين. وتكرر ذلك القول ما يقرب من عشرين مرة، وفي كل مرة يمسك «ستيفن» ثوب أمه بقوة وهو مصنوع من الصوف الخشن، ويسحب جاهدا قدمه بعيدا عن الطين اللزج ثم يعود فيعززها فيه ثانية ،ويسحب قدمه بعيدا، وهكذا أمكن إلى حد ما أن يسير طويلا بمحاذاتها. و« ستيفن» يعلم أنها كانت قدمه، إذ كان بوسعه أن يراها من خلال كتل الطين التي تدل عليها، والتي علقت بأطراف قدمه، غير أنه لم يشعر إلا بثقل قدمه التي يجرها جرا، ولم يكن الطين على درجة عالية من البرودة لما بقي في ذكرياته، حقا أنه يفضل أن يغطس في الطين، ولكنه هنا بدا باردا مثل الجليد،وفي الليل كانت قدمه أحيانا تسترد دفئها بل حرارتها،ألمها الحاد أيضا وغالبا ما يكون ذلك عندما يقوم أبوه بتدليك قدميه ليعيد إليها الحياة، أما بقية الوقت فإنها كقطعة من الحجارة المجمدة، ثقيلة إلى درجة يصعب معها سحبها على مدى طويل. وحيث بدت الأرض مجمدة كالصقيع، كانت أمه تمد يدها إليه،أما هو فيخجل في قناعة مدركا أنهم سيقفون إن عاجلا أم آجلا،أنهم ربما يجدون شيئا يأكلونه،وأنهم قطعا سوف يرقدون ويدخل النوم أجفانهم. ..كان الذهاب للنوم أطيب شيء تقدمه له الحياة في هذه الأوقات. وكان يتعين على أمه أن تمسك بثوبها وترفعه إلى ركبتها وإلا فإنها سوف تعجز تماما أن تجتاز الطريق في الأماكن الموحلة حيث يتفتت الطين المتجمد إلى قطع بفعل مئات الأقدام التي داستها، وكان أبوه يسير بصعوبة أمامها، حاملا معه الأشياء الذي أحضرها معه من منزله العتيق في «قازان» وهي عبارة عن بعض الأدوات وبعض المتاع التي قد يحتاجون إليه إلى يبلغوا نهاية المطاف، ويسمح لهم بالعيش في تلك القرية الجديدة. كان أبوه قليل الكلام، ودائما تعلو وجهه الكآبة وقد مكث طول الوقت بعجب ويتساءل، لما حدثت مثل هذه الأشياء؟.. وكانت الإجابة دائما تظل حائرة في أعماقه، وهم كانوا يسيرون ضمن قافلة قوامها مئتان من الرجال والنساء والأطفال، كانوا كثرة عند بدء المسير، لكن الضعفاء منهم ماتوا قبل الأقوياء، ولم يصادفوا أناس طيبين،ولهذا بقي حالهم كما كانوا في أكوام الجليد وبين المستنقعات التي على جانبي الطريق على الأرض التي يطأونها أو التي تركوها. سأل «ستيفن» أمه للمرة العشرين في ذلك اليوم: - إنه بعيد يا أمي قالت له أمه بفرح للمرة العشرين أيضا: - ليس بعيدا يارجلي الصغير. وهكذا غرق «ستيفن» الصغير في بحر الأمل على الرغم من نفس الإجابة التي كان يسمعها من قبل، وكان يشق طريقه بصعوبة خلال الموجود أمامه، وكان صوت أمه يشجعه دائما وفضلا عن ذلك كان الطين على درجة من العمق، وهنا فقط تصور «ستيفن» من تجربته أنهم يجب أن يكونوا قد أشرفوا على القرية، ومع هذا كان الطين دائما عميقا سواء قبل بلوغهم القرية أو وهم على مشارفها، وأخير قالت الأم: - إني أرى بيوتا هناك. قال « ستيفن»: سنجد شيئا نأكله يا أمي. قالت الأم: إن شاء الله هنا قبض «ستيفن» على ثوبها في حيوية، وسحب قدمه من الطين في حركة رجولية فجائية ثم غرزها ثانية في عزم. وعندما قدم أهل القرية كل ما أدخروه لهؤلاء الذين كانوا في طليعة المسافرين لم يعد «ستيفن» الصغير يجد من يقدم له كسرة خبز، وقد غادر القرويون كي يروا أناس في مسيرتهم، كان السجناء يترنمون بأغان حزينة شغلتهم عن بطونهم الجائعة، وقد بدا هؤلاء هم أجدادهم في حالة يرثى لها، وقد اعتادوا طول الطريق أن يلقوا اللوم على حظهم العاثر، كما اعتادوا على هذا العطاء الجاف في الطريق الطويل. كانت أقدام« ستيفن» الصغير بطيئة جدا، ولهذا السبب جاء أبواه في مؤخرة المسيرة، ولم يشفع له وجهه الصغير الشاحب الجائع أن يجد شيئا يسد به رمقه، وبقيت الأغنية الحزينة للجائعين عن الخبز تعلو وتخفت طوال الشارع العريض في القرية وبقيت عيون المسافرين التي أدركها التعب تتعلق في شوق إلى البيوت الخشبية التي يستقر فيها أهل القرية من الرجال والنساء.. إنهم يفكرون في المنازل التي تركوها وراءهم في روسيا، ويتساءلون بلا أمل إن كانوا سيعودون إلى بيوتهم ثانية ولقد بدت رائحة دخان الخشب التي تهب عليهم من المداخن رقيقة ولطيفة، كانت ما تكون أقرب إلى رائحة الطعام الجيد الذي يحلمون به لذا كانوا يشمونها باشتهاء، وقد حصل البعض على أرغفة من الخبز الأسمر، وآخرون حصلوا على شرائح من اللحم، ولكن هؤلاء كانوا من الرواد الذين كانوا في مقدمة المسير، أما الذين قدموا بعد ذلك فلم ينالوا إلا القليل. كانت نظرات الشفقة التي لا تشبع البطون الجائعة وأمام أول بيت جلس رجل وامرأته، أطلت من بينها رأس طفلة صغيرة، ترقب مسيرة الموكب الكبير وكل العطاء الذي كان بوسعهم أن يقدموه لهم هو نظرة طويلة للبعض والاكتفاء بهز الرأس للبقية، غير أنهم بدؤوا يشعرون بنظرات التوبيخ تحوطهم من الركب ومع ذلك فإنهم لم يحققوا أملهم. أما « ستيفن» الصغير فقد توقف أمامهم ونظر إلى الفتاة الصغيرة،وقد كانت رقيقة التقاطيع تضع على رأسها قبعة صغيرة من القماش، تدلت خلالها ضفائر شعرها الناعم، عيناها زرقاوان في عمق ممتلئتان بالشفقة، وقد نظرت الفتاة الصغيرة إلى «ستيفن» الصغير كما نظر هو إليها، كانت أرق فتاة رآها في حياته، وفجأة سحبت يدها من خلفها وأمسكت بـ «ستيفن» كان معها كعكة مستديرة طازجة، ما أطيب أن يقدم شيء للطفل الجائع، وقد بدت أسنان «ستيفن» الصغير وهو يتمتم بالشكر بيضاء ناصعة، وما أن تناول الكعكة حتى تعلقت عيناه بالفتاة الصغيرة إنه لن ينسى نظرتها كم كانت جميلة بعينيها الزرقاوين. قالت أم الفتاة في نصف غضب بعد أن رأتها تعطيه الكعكة: - ليس هناك ما يبرر هذا الكرم، أنت الآن تصرفت في غذائك، وهو كل ماستحصلين عليه اليوم. هنا أدرك« ستيفن» الصغير الأمر، فأوقف فمه الجائع بصعوبة وأمسك بما تبقى من الكعكة ليقدمه لفتاته، التي أصبحت بلا عشاء، لكن الفتاة الصغيرة هزت رأسها في خجل بثوب أمها.وقد كان وجه« ستيفن» الصغير ملطخاً بالطين، حتى كاد أن يخفيه. لكن ما الذي أعجب« كاتيا» الصغيرة في « ستيفن». وهنا قالت أم« ستيفن»: - حماك ا لله وحرستك الملائكة يا«كاتيا» الصغيرة. ومضى الموكب البائس في الطريق الطويل. |
|