تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


إبداع روائي يفضح جرائم اللغة

ثقافة
الخميس 30-8-2012
الجريمة سوف تنجز حقيقيتها في نقطة تتلو بوقف طويل لحظة حدوثها..أعني النقطة التي تنشر فيها الصحف أخبارها..إن الموقع الحقيقي لحدوثها في العالم الواقعي ليس ساحة سانت أوغستينو وإنما هو ذهن ملايين القراء.. والشكل الحقيقي ليس اللحم والدم والطلقات وإنما الكلمات اغتيال.. قتل وحشي.. جريمة نكراء.. عنف أهوج.. وفوضى.

وفي تقرير اعده بديع صنيج ونشرته سانا قال: هذا المقطع من رواية «الإرهابي» لديفيد معلوف يوضح كيف يتحكم الراوي ببنائه السردي والطريقة التي يوجه قارئه بها عبر جدل لا نهائي بين الوعي والإحساس.‏

رواية «الإرهابي» التي ترجمها سعدي يوسف والصادرة عن دار التكوين بدمشق تحكي عن شاب في التاسعة والعشرين من عمره ينتمي إلى إحدى جماعات الجريمة المنظمة لكنه يختلف عن غيره من الإرهابيين بأنه مثقف وتوكل إليه مهمة اغتيال إحدى الشخصيات الأدبية المعروفة لكنه قبل أن يفعل ذلك يدرس بعناية كل مؤلفات ذاك المبدع ويحاول أن يستشف قدرة ذاك الأديب على الحدس بموته إضافة إلى رغبته في اقتفاء أثره كقاتل ضمن تلك الكتابات العظيمة.‏

الاغتيال في رواية معلوف هذه لاتتوضح أسبابه القريبة أو البعيدة والقاتل لا يسأل عنها لكنه يحاول بينه وبين نفسه أن يؤسس سيرورتها الاجتماعية والثقافية والنفسية ابتداءً من معرفته بسيرة حياة الكاتب وجميع مؤلفاته منذ قصته الأولى والتي لن تنتهي عند اللقاء في ساحة سانت أوغستينو وفوهة مسدسه موجهة نحو الأديب الشيخ بمعنى أن القاتل ليس منوماً مغناطيسياً بل على العكس هو واع كل الوعي لما ستقترفه يداه لكن المفارقة أنه لا يعتبر فعلته ذنباً فالجريمة الحقيقية ستتم عبر صفحات الصحف والمجلات التي ستكتب عن حادثة الاغتيال.‏

يقول معلوف في المقطع الحادي عشر من روايته: «تغدو الجريمة حقيقية لأنها نشرت في الصحف.. لأنها دعيت عنفاً أهوج وفوضى.. لأنها تبلغ ذهن القارئ مجموعة من المقاطع المتفجرة.. إن ما نرتكبه هو جرائم لغة.. أي ضحية هو أكثر مناسبة من أديبنا العظيم وأي مثار للسخرية أكثر أو أي تلاعب قاتل حسب طريقته أكثر من إخضاعه إلى أكثر التعابير تفجراً وابتذالاً. هذا الدخول في قلب تلك الحقيقة أو اللاحقيقة أي حرب الكلمات».‏

نعم إنها حرب الكلمات أو بمعنى آخر الإعلام الذي بات يؤسس لمسارب جديدة في وعي المتلقي وهو ما يحاول الراوي لفت الانتباه إليه عبر ما أسماه «جرائم لغة» ففي سرده لحكاية الإرهابي الشاب لم يدخلنا في أي تعاطف سطحي معه كونه ضحية ولا مع الأديب بصفته الضحية الحقيقية بل على العكس وضعنا أمام بناء لغوي يسرد من خلاله حيوات شخصياته من خلال علاقتهم مع محيطهم دون أن يترك أية ثغرة قد تقود إحداها إلى قدر آخر فالمخطط الروائي متين عبر 19 فصلاً ينتقل من أحدها إلى الآخر ليضيء تفاصيل جديدة لهذه الجريمة الكاملة التي لن تحظى بأي عقاب.‏

يقول معلوف تحت عنوان «تصوير صحافي»: بدلاً من أن يمسك بالحياة نراه يفككها ويذيبها أولاً بالحط منها إلى شكل من النقاط الصغيرة ومناطق الضوء والعتمة ثم إعادة خلقها في صور نميزها لكننا لا نعود نشعر بأننا ذوو علاقة معها صور تنتسب إلى الأخبار.. طبعاً الأحداث التي نصنعها تكتسب أهميتها فقط حين تنشرها وسائل الإعلام لكن حقيقة نشر أخبارها.. هذه الحقيقة بالذات تغيرها وتفقدها كل ما لديها من لحم ودم.. تكتسب ذلك الموات.. ولا طريق للخروج من هذه المحنة.. نحن نستطيع أن نعمل من خلال واسطة هي بحد ذاتها العدو والتي من طبيعتها حرمان ما تغطيه من الحياة والقوة.‏

إن وصف الإعلام بالعدو يعيدنا مرة أخرى إلى جرائم اللغة والتي هي ليست لغة مكتوبة فقط بل لغة صورة تساوي ألف كلمة كما يصطلح عليه في علم الإعلام لكن معلوف يصفها بالميتة وغير الحقيقية فقط لأنه الوسيط الذي تنتقل عبره ليس أخلاقياً البتة وغير قادر على البقاء محايداً وهذا ما يعتبره الراوي طريقاً إلى الموت فالإعلام بحسب صاحب «حياة متخيلة» هو الإرهابي الذي يرتكب باستمرار جرائمه الكاملة مثله مثل ذاك الشاب في أواخر عشرينياته.‏

رواية «الإرهابي.. ملعبة طفل» 150 صفحة كتبت على مستويين الأول يرتبط بالجريمة التي اقترفها الشاب بحق الأديب الشيخ وجدله المستمر بين أحاسيسه ووعيه والثاني له علاقة بالبعد الأخلاقي للموت والذي باتت وسائل الإعلام المتعددة تتعامل معه بإجرام يتوازى مع قسوة الموت ذاته وأحياناً أقسى يترافق ذلك مع تحميل السرد الكثير من الأسئلة التي يصعب حصرها في نسق معين أو سياق.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية