تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


تهكَّم من «النفوس الميِّتة» ثم أحرق أعماله

ثقافة
الخميس 30-8-2012
هفاف ميهوب

قال الأديب والشاعر الروسي «بوشكين»: ليس ثمة كاتب مثل «غوغول» قد وُهبَ المقدرة على وصفِ الحياة في ضِعتها وابتذالها.. لقد صوَّر بأسلوبٍ ساخرٍ و حارٍ، تفاهة الإنسان وصوَّر الأشياء البسيطة التي تقتحمها العين ولا تلمحها- فجعلها بارزة حيّة»..

ليس غريباً أن يقال هذا عن «غوغول» لطالما قيل عنه الكثير، ولطالما قال «دوستويفسكي» أيضاً، بأن القصة الروية خرجت من معطفه. الغريب أن يقوم هذا الأديب بحرقِ أولِ أعماله الأدبية ومن ثمَّ آخرها، وفي غمرةِ انفعالٍ ويأسٍ جعلاه يرمِّد إبداعاتٍ حتماً كانت ستًغني الأدب وتحديداً القصة الروسية.‏‏

أما أول عملٍ أحرقه فهو قصيدة يتساءل فيها عن مصير الإنسان، نشرها في إحدى المجلات الروسية، لتكون السخرية والتهكُّم اللذان قُوبلت بهما، هما السبب في جعله يشتري جميع النسخ من المكتبات ومن ثمَّ يحرقها.‏‏

بعد هذه الحادثة ترك «غوغول» الشعر وتوجَّه إلى كتابة النثر، وبما نتج عنه الكثير من الأعمال الخالدة التي هزَّت المجتمع الروسي بأكمله، مؤكدة عمق موهبةِ أديبٍ ما أن بلغ الأربعين عاماً حتى قام ذات ليل صلَّى فيه طويلاً، بإشعال النيران وإلقاء مسودة الجزء الثاني من روايته «النفوس الميتة» فيها..‏‏

إنَّ ما اقترفه أصابه بحزنٍ قاتل ويأسٍ مرير.. بمشاعرٍ أجهشَ بالبكاءِ من شدَّةِ ما أوجعته وبطريقةٍ لم تحصل لأديبٍ من قبل، وبما جعل كُثر من دارسيه يتساءلون: يا تُرى، هل كان البؤس الذي عاشته روسيا آنذاك، وهل كانت أوساطها الفاسدة والأخرى المسحوقة، هي السبب في امتلائه رفضاً لكلِّ ظروف الحياة، ودون أن يتخلى عن لهجته الساخرة إلا بتخلّيه عن مهمته ككاتب جسَّد هكذا حياة؟.‏‏

ربما، ذلك أنه يقول عن الكاتب السعيد الذي لم يكونه أبداً: «إنه لسعيد ذلك الكاتب الذي يختار من الأوساط المنحطَّة، الشخصيات الشاذة، فلا يخون إلهامه ولا ينحط إلى مستوى البؤساء.. يطير في الأجواء الأثيرية حيث لاتعيش إلا المخلوقات الجميلة.. إن مثل هذا الكاتب يُحسد على شيئين، أولهما أنه أبعد ما يكون عن صداها، وثانيهما أنه يضع ستاراً كثيفاً على عيون الأشخاص الذين يصفهم ليحجب عنهم أحزان الحياة، مكتفياً بوصف الجميل والنبيل..‏‏

لاشكَّ أن هذا القول وإن دلَّ على شيء، فهو أن «غوغول» كان كاتباً أسرف في وصفِ ما لاتراه العيون العادية، وفي استعراض الحياة الغارقة في الفقر والانحطاط، رافضاً أن يرى دموع الإعجاب وحماس القلوب يهرع لمباركته، بل رافضاً أن يُؤخذ هو وقبل كل الناس بروعةِ عوالمٍ لاشيء فيها جميل إلا إذا تخيَّلته عماله.‏‏

أيضاً.. لم يكتفِ بفضح الحياة الغارقة بالفقر والانحطاط، ليكون أكثر ما تهكَّم منه وفضحه، كل النماذج التي أساءت للمجتمع الروسي، والتي جعلت من الرشوة والوساطة والسرقة والكذب والفساد والتخلف والقسوة، ماألهمه أن يكتبها ساخراً من كلِّ من أغضبهم وزاد في إغضابهم بقوله: «ربَّما أكونُ أغضبتُ من يدَّعون الوطنية. الذين يقبعون قرب النار مهتمين بأعمالهم الصغيرة التافهة، أو يزيدون من ثرواتهم ويبنون سعادتهم على حسابِ الآخرين لكن، ما أن يصدر كتاب يتعرض لحقائق قاسية حتى يهتزُّوا ويجنّ جنونهم كالعناكب حين ترى ذبابة عالقة بخيطها».‏‏

إن كل ما أوردناه يجعل «غوغول» أديباً إنسانياً من الدرجة المتأثرة بالفقراء والمظلومين والمسحوقين، ممن آلَ على إبداعه إلا أن يكون نصيرهم وكاتب حياتهم ومُنصفهم من أصحاب النفوس «الميتة». أولئك الذين أشبعهم وصفاً بأنهم السبب في تأخُّر روسيا، والداء الذي تفشَّى في أنحائها إلى أن قضى على كلِّ اعتبارٍ لها.. وبأنهم وللأســــف، المصيبـة التي تعني انعدام الأخلاق وطنية..‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية