|
ثقافة
فمع بدايات ظهور تيارات الحداثة التشكيلية في نهاية الاربعينات، برز تحول في صياغة موضوعات الورود والزهور على الصعيد التقني، من التركيز لإظهار الدقة والنمنمة التفصيلية، الى طريقة الرسم بلمسة عفوية وتلقائية وسريعة. وهذا نجده بشكل واضح في بعض لوحات فناني الحداثة، الذين ركزوا، لابرازعلاقة الفن الوطيدة بالورود والزهور، والنباتات الشامية، حيث استعادوا أجواء الحارات والبيوت الشعبية القديمة، المطلة على نصاعة بياض زهر الياسمين، الذي كان ولا يزال يعطي لدمشق رونقها السحري المتجدد، كما اتجه بعضهم، إلى تصوير المرأة الريفية، ضمن رؤية متفاوتة ما بين الواقعية والانطباعية، مؤكدين على حضور الزهور الى جانب المرأة. فمع الفنان (نذير نبعة) بدأ تاريخ آخر في مسيرة الفن التشكيلي المعاصر في سورية، تاريخ لا يستعيد قدرته، إذا لم يحقق خطوة الحفاظ على ذاكرته. هكذا أصبح الحلم في تجربته الفنية فسحة للانفلات من قلق المدن الحديثة، والعودة إلى أجواء البيوت القديمة، لأن صدمة المدينة وقلق الحياة الممكننة، ومعاناة الناس في دهاليز الأبنية الاسمنتية، بدت بعيدة كل البعد، عن أحلام المطر والجداول والينابيع وأحلام بركة الأرض.
ولقد جسد نذير نبعة عناصر المرأة بنظرتها الثاقبة، وهي محاطة بنباتات الزينة والفواكه والورود الجورية الدمشقية، مع تركيزه في أحيان كثيرة على إبراز النتواءات وثنيات الثوب، عبر تقنية خاصة تصل إلى تغطية مساحات من اللوحة تضفي الحيوية والحركة والأجواء الخاصة على عمله الفني. فعالم مسرح لوحاته كان يوحي بضرورة الحفاظ على صورة الحلم الأول، الذي يستعيد صورة الوطن الباقي ما بين القلب والذاكرة، لأنه في ممارسته الفنية، لم يكن يوماً خارجاً،عن عاطفة التجوال في واحة الأشكال التراثية المكتنزة بالورود والزهور. وكان الورد الجوري الدمشقي الذي جسده في جداريات ولوحات عديدة، بمثابة بدايات لأضواء البهجة والشاعرية الموصولة بالفرح،والمندفعة نحو المرح، والقادرة على استعادة فردوس وطن مفتوح على البهرجة الفلكلورية النابعة من أحلام مدينة دمشق القديمة، التي تتألق أبنيتها بالزخارف والرقوش، وتتأنق حدائقها بالياسمين والنارنج والأضاليا والمنثور. وهو في جميع تلك اللوحات قد وصل إلى جماليات ومناخات خاصة به، لا تطلق الأصل ولا تقلده في سياق استعادته لتفاصيل الورود والزهور والنباتات الشامية المتداخلة مع وجه وعناصر المرأة القادمة من الماضي، إضافة لإستعادة (الأزياء التقليدية، الصدفيات، الزجاجيات والأواني المزخرفة، الجواهر والحلي....) كل ذلك في خطوات إعادة الاعتبار إلى معطيات التراث الفولكلوري والشعبي، الذي يتعرض للزوال والاندثار. وركز الفنان (فائق دحدوح) لإظهار هوية محلية للوحة، من خلال إدخال عناصر نباتية وأزهار شامية، حيث برزت تلك الإشارات والعناصرالمحلية مع المرأة العارية والقطط الأليفة، المختصرة بخطوط شديدة التلقائية والعفوية، عبر إظهار التضاد في أحيان كثيرة بين الألوان الخافتة والمتوهجة في خلفية اللوحة، مع إعطاء أهمية قصوى لتعابير وانفعالات حالته الداخلية التي تترك أثراً واضحاً على لمسات اللون، من خلال اعتماد الضربة العفوية في صياغة العناصر والأشكال التي تتخلل ضربات ريشة عفوية تكشف هواجسه الجمالية الحديثة، وتؤكد انحيازه الكامل ولقد استعاد الفنان الراحل (محمد علي الحمصي) في معظم لوحاته (أحواض الزهور والورود والنباتات الشامية) وكان يقوم بتركيب عناصر مختلفة في اللوحة الواحدة (معمارية ونباتية وإنسانية) ويحمل مفرداته التشكيلية نكهة الأمكنة الحميمية المترسخة في الذاكرة والوجدان كبصمة لاتغيب، لتحقيق إنسجامه مع الأمكنة الحميمية، والمجاهرة بحب المدينة القديمة، التي كان يغوص في تشكيل عناصرها، ويساهم في الحفاظ على طابعها الحضاري المستمر والمتواصل عبر العصور، ولقد كان يمتلك لغة اللون الدمشقي ويتعاطف مع ألوان الزهور والورود الشامية الطافحة بالخيال والشعر، حيث تطل هذه العناصر في لوحاته ضمن أجواء شاعرية ساحرة تقترب في أغلب الأحيان من الصياغة التعبيرية العفوية والغنائية. ومنذ مطلع سبعينات القرن الماضي بدأ الفنان (ناثر الحسني) عرض لوحاته، وعلى الرغم من تنقله بين المواضيع والتقنيات المختلفة، بقيت أحلام مدينة دمشق القديمة مترسخة في ذاكرته وظاهرة في لوحاته، حيث استعاد أجواء الحارات والبيوت الشعبية، الفسيحة من الداخلة والخارج معاً، والمطلة على نصاعة بياض زهر الياسمين، الذي كان ولا يزال يعطي لدمشق رونقها السحري المتجدد، وبصمة المدينة القديمة العابقة بالياسمين والأضاليا والمنثور من الداخل والخارج معاً، بقيت مترسخة في وجدانه وقلبه، لأن علاقته بها كانت غريزية منذ طفولته وفتوته. وشكلت الورود والزهور الشامية العصب الاساسي في نتاج الفنانة (سوسن جلال) حيث أدخلتنا في عوالم الشفافية والشاعرية والأجواء الضبابية في خطوات تجسيدها لأشكال وألوان الورود والزهور، وشاهدنا بالتالي تحولها الكبير نحو مواضيع الزهور الملتقطة من نقطة مقربة في الطبيعة. ولقد قدمت أشكال الزهور بحركات لونية تلقائية حاملة بعض مظاهر اللمسة التعبيرية والواقعية الجديدة، وهكذا تراوحت في صياغة موضوعاتها بين المشهدية الواقعية، وبين الرؤية التعبيرية المنفلتة من قيود الواقع الخارجي المرئي. وظاهرة العودة الى رسم تنويعات الورود والزهور يمكن اعتبارها في المرحلة الراهنة بمثابة ردة فعل معاكسة لتوترات الايام الرمادية, التي تصاعدت وتيرتها في الامكنة المتهدمة والمتصدعة والمهجورة والمحاصرة. فلوحات الازهار والطبيعة تشكل في النهاية صرخة رفض تجاه لامبالاة الاستمرار في معايشة دوامة العنف والرعب والموت والخطف والتهجير..فهي اللوحة المشرعة على الاحاسيس الانسانية العميقة والبريئة او على مناخ لوني اكثر شفافية وشاعرية وغنائية. هذا الهاجس الشاعري والشفاف الذي تتجلى من خلاله ايقاعات الورود والزهور، تجسده سوسن جلال بشكل يومي، رغم معايشتها للحدة المأساوية التي تلف الواقع وسط هذا الخراب, الحامل لكل انفعالات السخط والمرارة والحزن والجو اللوني القاتم الى درجة السواد الكلي او المطلق. ففي مزاولتها اليومية إلايقاعات الرسم التعبيري والشاعري, لا تجسد المشاهد المأساوية المعاشة حالياً. وانما تدفعنا الى رؤية الجمال والارتماء باحضان حدائق الزهور والورود. وهي في معالجتها اللونية تتجه صوب الحداثة بتأثيرات الهواجس والرؤى والافكار المعاصرة. لتسجيل ملامح خطواتها الفنية وتطور ايقاعاتها اللونية, التي تدخل البهجة الى العين والقلب معاً. ومنذ سنوات طويلة كانت الفنانة (عتاب حريب) تركز في لوحاتها لإبراز إيقاعات اللمسة وعفويتها وشفافيتها وشاعريتها، فهذه الأمور تغريها أكثر من أي شيء آخر في اللوحة، وهي تميل في أكثرية لوحاتها لالتقاط الزوايا الأليفة لأحواض الورود والزهور والنوافذ الدمشقية المشرعة على النور والياسمين الدائم العبق والاخضرار، فقد استطاعت خلال سنوات تجربتها كشف أسرار التقنيات المائية والاطلاع على إمكانيات تحريك الموضوعات الواقعية، والوصول إلى اللوحة في إيقاعاتها المختصرة والمبسطة والمرتبطة بمعطيات اللوحة التعبيرية الحديثة، وهذا المظهر التلويني المتحرر تتخذه لبناء لوحة شرقية، مستمدة من ألوان الزهور الشامية والطبيعة المحلية والعناصر المعمارية، القادمة من تأملات نوافذ وقناطر العمارة الدمشقية القديمة. وهي تعمل على إبراز اللمسة اللونية بالتعبير التلقائي، المعبّر عن حركة وحيوية المنظر الطبيعي والمعماري والريفي وأحواض الزهور، كل ذلك بصياغة فنية حديثة، تسير في إطار وهاجس واحد، هو تبسيط الشكل وتحويره وإعادة تركيبه عبر الإيقاعات والبقع اللونية والحركة الخطية للوصول إلى مناخ الصياغة المختصرة والمبسطة. وكانت عتاب حريب قد أطلقت عنوان (أزهار كانون) على المعرض التشكيلي الذي أقامته في حلب العام 2006 وذلك لإيجاد مناخية جديدة، من خلال الانفتاح هذه المرة على تأملات الزهور الدمشقية المستمدة من وقائع العيش وانطباعات رؤية المشهد الشتوي بمختلف وجوهه. ولقد تمحورت معظم لوحات الفنان (عبد السلام عبد الله) حول مواضيع الزهور، التي يجسدها ضمن رؤية فنية انطباعية تبرز فصاحة الطبيعة وإشراقة الضوء وبهجة الألوان ورهافة العاطفة في وضع اللمسات اللونية. فهو رسام طبيعة وأزهار، يرسم أجواء الفرح في الطبيعة، ويلتقط بشكل دائم الألوان المحلية المشرقة في الهواء الطلق، ويعيد الاخضرار والحياة إلى الأشجار والأغصان في الأرض اليباب. وجسدت الفنانة (ليلى طه) عناصر الورود والزهور، وجعلتها تتداخل في أحيان كثيرة مع الكراسي والزخرفة وغيرها، كل ذلك بصياغة لونية عفوية تبعد اللوحة عن الهندسة التزيينية والتقليدية، وتدخلها في إطار اللوحة الحديثة، التي تضفي المزيد من التلقائية والعاطفية على حركة الأشكال المرسومة، الشيء الذي فتح نصوص مساحاتها التشكيلية على احتمالات تعبيرية واختزالية، وعملت على تحريك عناصر اللوحة، بإضافات لونية متحررة ولمسات ناتئة، مرتبطة بالحالة الداخلية التي تعيشها أثناء إنجاز اللوحة. facebook.com/adib.makhzoum |
|