|
ثقافة «نيالك» غداً بعد البكالوريا تجد لك وظيفة فيها.. لكن.. أعرف جيداً أن ذاك العام شهد تحسن علاقتي بـ «الثورة».. وكأن عامي الأخير في «جبلة» الساحلية الصغيرة التي افتقدتها ولم أعد أجدها أبداً.. ولولا بقايا بحر وصخور وتلقائية أبناء الساحل وفوضويتهم.. وسندويشة فلافل «أبو حطب ربما» وصحن كنافة «مريش مثلاً» وباقة فجل وضمة نعناع.. لانتزعوا من صدري هوى الأمكنة.. ذاك الصيف كنت مضطراً لأن أعترف بخطأ اختياري في القرار الذي ترك لي بين جبلة ودمشق.. اخترت الأولى ربما استسهالاً، وربما تنازع عشق.. عادت دمشق وحسمته لصالحها، إلى أن كانت سورية الجميلة.. قبل أن ينتهي العام اقتربت أكثر من الأجواء الصحفية، جاء ذلك بحكم انتقالي إلى دمشق، كانت «الثورة» يومياً في بيتنا.. وكنت متمكناً من زيارة مكاتبها كلما أردت.. لكن... بصراحة قلما فعلت.. فمع وداعي لجبلة والقرية، وحلولي دمشق كان علي أن أتمثل الجدية إذا بدأت البكالوريا العلمي في ثانوية ابن خلدون. سأدّعي أنني افتقدت القرية.. سأدعي أنني افتقدت جبلة.. لكنني لن أدّعي أن دمشق لم تبهرني.. كان الحب.. وما زال.. ولكم أحببت.. كثيرين.. كثيرات.. ولدمشق وحدها كانت الديمومة.. في القرى يقولون: لا ترسلوه إلى المدينة كي لا تنزعه.. يومها اكتشفت السر.. إنها الدهشة.. والقدرة على تبديد الوقت.. كل ما حولي يحتاج إلى قراءة.. فمن أين الوقت كي أقرأ في كتبي.؟! في بيتنا الصغير في حي المزة «دمشق الجديدة» كانت ثمة جرائد ومجلات.. مقالات وتحقيقات.. وأفق بلا حدود يحتاج الاكتشاف. مارست الهواية.. فكانت بداية الغواية. أصابني نوع من الذهول.. حتى مدرستي ورفاق صفي بالكاد كانوا يتعرفون عليّ.. وقد عرّضني إهمال حلاقة ذقني - لأول مرة في حياتي - إلى مجموعة من الاحتمالات لمآزق اجتماعية وسياسية.. ودعيت لأكثر من اجتماع في أكثر من جامع.. وعرفت أن الإسلام واحد والشيوخ كثر.. وللجوامع مريدون يبحثون ليس عن الصلاة فقط!. لم يكن لي عهد سابق بهم فحيث كنت كانت «الرسالة الخالدة» او «ناصر.. ناصر..» أو أصابع تمتد وفم يهمس «شيوعي.. شيوعي» اختلفت الأدوات واللعبة واحدة.. من مع.. من ضد..؟! < مع من أنت؟! سكت.. فقد فاجأني السؤال ولم أعرف الإجابة.. صحيح مع من أنا..؟! في اليوم التالي كنت متوجساً من أن يعاد طرح السؤال عليّ فأنا لم أحدد بعد.. مع من أنا؟! بحثت عن الطالب الذي أطلق سؤاله في وجهي ليس كي أجيب بل كي أهرب منه.. لكن.. لم أستطع الهروب فقد كان يبحث عني.. جهزت إجابة مؤقتة.. سأقول له: - لست مع أحد.. لكن.. مرة أخرى يصدمني ويفاجئني.. بدأ كلامه على الفور وهو يمد يده لمصافحتي: < أنا آسف جداً.. كنت فظاً معك أمس..؟! رغم أنه لم يسأل السؤال قلت له: - أنا لست مع أحد.. نظر إليّ بهدوء.. وقال: < الذي ليس مع أحد.. هو مع الحكومة.. هل أنت بعثي؟! - أنا لست في حزب.. < رأيت زياداً يحادثك أمس.. هل دعاك إلى جامع..؟! - نعم.. < جامع يلبغا في المرجة..؟! - نعم < وعبد الرحمن دعاك إلى جامع دينكز؟! - صحيح.. بين هذا وذاك الأفضل ألا تكون مع أحد. رويت لأخي ما جرى.. فوجده عادياً جداً.. وشجعني على أن أعرف الطالب الذي سألني مع من هو.. لم أتشجع مباشرة.. وقد استمرت لقاءاتي المتقطعة في استراحات الحصص الدراسية مع الشاب عبد الحميد.. وبعد أن أصبحت بيننا صيغة حوار.. يتجاوز مع من أنت إلى الكيمياء والفيزياء والعلوم.. وقليل من ممازحة.. تشجعت وجئته في صباح أسأله: مع من أنت..؟! نظر إلي بطريقة أشعرتني أنني أربكته أكثر مما أربكني.. ثم قال: < أنا من حزب أعدم.. - سوري قومي؟! < كيف عرفت؟! - تقول حزب أعدم.. < قلتها لأحرمك من تكرار سؤالك.. - هل بقي قوميون؟! < أولاً أنا أسحب عبارة اعدم.. هم حاولوا إعدامه.. قتلوا منه كثيرين.. قتلوا الزعيم.. لكن الحزب ما زال موجوداً وسيبقى.. هو لم يخف.. أما أنا فقد خفت.. في منزله في حي قريب من مدرستنا «ابن خلدون» كان من السهل اكتشاف جرأته وانتمائه.. صورة أنطون سعادة والزوبعة.. الكتب.. و.. ولم يكن في ذلك ما لا أعرفه.. بل إن عبد الحميد عاملني كرفيق وكان يستهجن جداً قشعريرة روحي مما رأيته يوم زرت دمشق لأول مرة وقد رويت له ذهولي أمام مشهد بيت في بستان ثقبت جدرانه قنابل الدبابات.. قال: الناصريون يستحقون أكثر من ذلك.. بشكل عام كانت أسئلته تصدمني.. < لماذا تريد الهندسة؟! - لا أعرف.. أحبها. < أم أنك تبحث عن فرصة عمل؟! - ربما.. < استفد من وجود أخيك في صحيفة الثورة. إلى حد ما أضاف على هزلية مقترحات علاء نوعاً من الجدية.. لكن دون أن ترتسم برؤية أو توجه.. ربما اقترح ذلك من كثر ما أوردت «الثورة» في أحاديثي.. لم أكن قد أكملت السادسة عشرة من عمري.. وأعيش مع الصحيفة بشكل يومي.. هل كان من مجال لنكران التأثر.. في الحوادث التي عرفتها مدرستنا انعكاساً لتطورات في الشارع.. كان الاسلاميون أكثر عدداً.. والبعثيون أكثر قوة.. والناصريون متوارين وإلى حد ما شامتين والباقون متفرجين بسلبية.. إلا عبد الحميد.. أخذ الجريدة من يدي ومزقها.. وكنت أحضرتها معي للتباهي: وقفت متوتراً وسألته: - ليش هيك.. قال: لأنها عاجزة أن تقول ما يجري.. رفضت قوله.. لأنها كانت تقول عما يجري.. وإلى اليوم هي تقول.. ولا أعتقد أن جرائد كثيرة في العالم تقول عن كل ما يجري.. وإلا لتوحدت.. |
|