تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حراس المضمون

ملحق ثقافي
8/12/2009
ممدوح عزام

الطريف أنه في كل مرة يمدح الشكل, أو يمنح أهمية نسبية أو استثنائية, في الرواية أو القصة أو الشعر, أو يجري الحديث عن حضوره البنيوي, في الأعمال الفنية،

تندفع مجموعة من المتحمسين للحط من شأنه، واتهامه بالتآمر على مصالح الأمة والشعب، والإدعاء بأن الأولوية المطلقة والدائمة هي لقرينه الآخر، أو لعدوه المنافس، وهو المضمون، والطريف أنك لا تجد أحدا يتطوع للدفاع عن الشكل, إذا ما حدث العكس، فقد بدا الشكل في الثقافة العربية الحديثة ثانويا لدى الكثير من النقاد والدارسين الذين اهتموا بقضايا الشكل والمضمون، أو ملحقا تابعا لا وظيفة له سوى أن يكون وعاء محايدا لتفريغ المعنى الذي يقصده هذا الكاتب أو ذاك من الروائيين، أو كتاب القصة، أو سواهم، غير أن الشكل أضحى ملعونا في نظر آخرين من الحراس الذين يخشون أن يهمل المضمون أو ينسف، أو يتراجع إلى الصف الثاني من اهتمامات الكاتب، خاصة أن الواقع العربي يحتشد بالمضامين المؤهلة أو الجاهزة, أو المهملة، في الحقيقة، من قبل المعالجات الفنية، وهم يظنون أن انصراف الروائي إلى الاهتمامات الشكلية، أو أن انشغاله بالشكل الفني للكتابة، يعيده إلى ذلك العالم المرذول من عوالم الفن للفن.‏

اللافت أن الأمر بدأ يتخذ وضعية المعركة، وإذا كان لم يستطع بعد أن ينتقل إلى ساحة الكتابة في الصحف والمجلات والدراسات, بصورة معمقة، فإن المدقق يستطيع ملاحظته في الندوات والمؤتمرات التي تعقد هنا أو هناك، بين فترة وأخرى. اللافت أيضا أن معظم الروائيين الذين استمعت إلى شهاداتهم اعترفوا، أو قرروا في الواقع أن شغلهم ينصب على العناية، أو البحث المضني أحيانا عن الشكل، أو عما تلخصه تلك الشهادات في الجملتين الشهيرتين، كيف أقول ماذا أريد أن أقول؟.‏

في كيف أقول، أو كيف نقول، تستوطن حرية الكاتب، تلك الحرية التي تمنحه القدرة على إنجاز العمل الأدبي، في كيف نقول يعلن الكاتب عن نفسه، يأخذ أو يكتسب صوته الخاص الذي لا يشبه غيره من الأصوات، ويضيف في الوقت نفسه لحنا جديدا إلى الكل الذي يشكل الجماعة الأدبية التي تصنع أدبا قوميا أو وطنيا أو إنسانيا. كيف نقول: هي لحظة التنوير التي يتمكن الروائي من خلالها إنجاز العمل الأدبي وفق طموحاته الفنية. كيف نقول: هي الرواية ذاتها، إنها الهوية التي نستطيع أن نحكم على هذا العمل الكتابي أو ذاك بأنه رواية، أو أنه عمل فني أم لا، هي إذن ذلك الخطاب السري الذي يتمكن الروائي بواسطته من اجتذاب القارئ إلى القراءة، إذ يكون قد أنجز عقدا غير مكتوب بينه وبين هذا القارئ، من أجل المتعة والجمال.‏

لا جدوى إذن من حراسة المضمون، ولا خشية عليه أبدا، إذ لم يحدث في تاريخ الأدب أن قدمت الكتابة نصا بلا معنى، ولم يحدث أن كانت الرواية معادية للإنسان، أو للإنسانية، وأخشى أن أقول أن بعض حراس المضمون أساؤوا إليه، حين أرادوا أن يقدموه بالوسائل السهلة، والطرق المعبدة، أو المرصوفة بحجارة التوصيات والإملاءات والشروط والمقررات، أي بالوسائل غير الفنية، وأنا من المؤمنين بأن الكتابة الفنية الجيدة، تعين القارئ، لا على المشاركة في إنتاج المعنى أو المضمون المحبوب وحسب، بل في إعادة إنتاج معان عميقة ومتعددة في النص الأدبي الواحد.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية