|
ثقافة سألَتْهُ: هل ما أراه صحيحاً؟ قال بلى.. فنحن في غربتنا عن سورية، وما نكابده من كل شيء، من شظف الروح، إلى أقصى مكابدات الاغتراب، يكادُ يجعلُنا لا نُصَدِّقُ أنَّنا نكلِّم أحداً، أو نُحَادثُ أحداً، رُوح ما حقيقة في البلد ولو عبر الإنترنت، وهذه دموعُ السَّعادة لأنَّها تكادُ تكونُ الفسحةَ الوحيدةَ السعيدة التي نطلُّ منها على الوطن من نافذة مواطنيه المحبين الغيورين.. عاد شريطُ الذِّكريات بأمينة، إلى ذلكَ اليوم الذي عانت فيه ما عانى «وطن» وأكثر، لكنْ داخلَ البلد، وكيف أنَّها تُكَابِدُ من سنواتٍ، شظفَ كلِّ شيءٍ كلَّ يوم وكلَّ دقيقة، في هذه المحنةِ الأقسى على البلد الحبيب سورية.. وتذكَّرتْ أكثرَ كيفَ جهدَتْ لتَخْرُجَ من نافذةِ أملٍ ولو وهميَّة افتراضيَّة، باحثةً عما يُمكِنُهُ أن يُسَمَّى عيشاً كريماً، ولو في أقاصي الأرض، لكن تقطَّعَتْ بها سُبُلُ النَّجاة، فلا سبيلَ سوى العيش في هذا المنفى الإجباري الاختياريِّ الكبير، المُسَوَّرِ بكلِّ ما يُفَتِّتُ الفؤادَ لكلِّ مِمَّنْ لا يُهَادِنُون على شرَفِ الموقفِ أو قضيَّةِ الوطنِ الكُبرى أو الصُّغرى قديماً وحاضراً ومُسْتقبلاً.. لو تُدرِكُ الآلهةُ، مم صنَعَتْ شيفرة السُّوريِّين المُحاربين الأشدَّاء عبر الأزمان، إذاً لقالت: «أحسنتُ صنعاً، ولكنَّني بالوقت نفسه كبَّدتُ هؤلاءِ أشدَّ الأذى والآلام..» على مرِّ الأزمان، مرت كلُّ جحافلِ القهرِ والغزواتِ والعُدوانات والاجتياحات، وكانت كلُّها تندحرُ ليقومَ السُّوريُّون بقيامتهم، ويُبعثَ طائرُهُم من رمادِهِ، ولكنْ لتأتيهم على فترة أخرى من الزَّمان غزوة أخرى، وعدوان جديد، ودماء تتجدَّدُ، أنهار وأشلاء، في هدنة مع الموت، ومصالحةٍ مؤقَّتة مع الحياة، ليعيدوا نسغَ الحياة والكرامَةِ إلى مورِّثاتِهِم ولو لحقبةٍ من الزَّمان، فقط ما يشفعُ لهذا الموت، ولهذا الإنسان، ولهذه الحياة، أن السُّوريِّين أثبتُوا أنَّهُم جبابرةٌ أشدَّاءُ لايُقْهَرُون، بل ويصنعُون كافَّة أشكالِ الحياة من قلبِ الموت، وكلَّ أنواعِ الطُّهر والنُّور من قلب السَّوادِ والسُّوء. انتبهت «أمينة»، كان الدَّمعُ ينهمرُ مدراراً من عيني «وطن»، والصَّوتُ يتهدَّجُ، وشعورٌ بالخجل من تفكيرها هذا ينتابُها دفعة واحدة، كانت شاشة الحاسب، قد غشاها دمع حقيقيٌّ، ولكن هذه المرة ليسَ من عَينَي «وطن»، بل من روحِ «أمينة».. أغلقت الكاميرا وبدأت تنشد بأدعية أخذت تنساب على قلمها، أدعية لأجل سلام روحها وسلام «وطن»، لأجل راحة أرواح من قضوا شهداء أبرارا مظلومين: طوبى لزارعي الأمل في النُّفوس.. طوبى لصانعي المستقبل وسط آلام الحاضر.. طوبى لدماء من ضحَّى لنحيا، ومن عانق الموت ليهبَ لنا الحياة.. طوبى للدراويش المجاذيب بعشق أوطانهم.. ملح الأرض وشرف الموقف قناديل الحق وشموع الزمان طوبى لفرسان الحق، قادة الأوطان المجهولين إلى معاقل الضوء والنور والحقيقة طوبى لبلد لا ينام شرفاؤه، ولا يغمض لحقيقتهم جفن.. طوبى لنسغ هؤلاء الممتد من الأزل إلى الأبد، تتوارثه قلة قليلة من النفر البيض، حراسِ فجر الحقيقة كلَّ زمان وكلَّ مكان. انتبهت «أمينة» من «تطويباتها»، على أصوات تمتمات التكايا، ومناجاة العاشقين في جنباتِ الأرض الطاهرة المظلومة، فإذا كلُّ شيءٍ جديدٌ باذخٌ نقي تماماً كهذا الفجر الذي بزغ للتو. |
|