تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عن عبد الرحمن منيف

كتب
الأربعاء 8-2-2012
أنور محمد

إذا كان نجيب محفوظ قد أعطى للرواية العربية عمقها الاجتماعي، فإنَّ عبد الرحمن منيف دفعها نحو الغوص في أعماق العقل العربي لتسبر أسرار حزنه القومي.

صارت الرواية على يديه رواية (رؤيا) رواية استعارها، استعار شكلها كجنس أدبي ليقضي، ليمرِّر من خلالها مشروعه الفكري (الفلسفي) النهضوي. فالشعور بالهزيمة الذي ينهض بكلِّ رواياته, هو شعور ذاتٍ منكسرةٍ، ذاتٍ حزينةٍ، هي ذاتُ عبد الرحمن منيف، ذاتٌ (فشَّ خُلقَهُ) فيها حين نثرها في «شرق المتوسط» و«مدن الملح» تحديداً. والذات الحزينة على الغالب هي ذات مثقَّفة، ذات لاتريد ربحاً، لكنَّها ذات تخسر أوَّل ما تخسر كرامتها القومية. لذا فأين يذهب بالوحش القومي الضاري- أسميه وحشاً – مجازاً, هذا الذي يلوك ضميره الشخصي، ويلوك وجدانه القومي، فالمنيف يقيم في رواياته حضارةً عقلية – حضارة للعقل. هو يسرد, هو لايكتب رواية تقليدية, هو لم يذهب كما ذهب (جويس) أو (بروست) فاخترعا كتابةً ليست كأيِّ كتابة, فشقَّا عصا الطاعة على السرد التقليدي، وصارا يكتبان كلماتٍ وكلماتٍ وكلمات. المنيف حوَّل الرواية، أعاد لها اعتبارها (كحامل) فكري, صيَّرها (قوتاً) فكرياً، لكنَّه وفي (مدن الملح) أضاف لها – لروايته شكلاً معمارياً، بدا مهندساً معمارياً. لقد جاء بمكان صحراوي، ثمَّ بنى فوقه عمارةً زمنية – هو بناء مجازي؛ لكنَّه واقعي. بل شقَّ رداء واقعيته وحلَّق في صوفية (فكرية). «متعب الهذّال» بطل الرواية والذي وإن غاب وسلَّم مشروعه لابنه (شعلان)، إلا أنَّ طيفه /مشروعه الحضاري, مأساته الروحية، هي التي شادت العمارة الزمنية لمدن الملح. أنا «متعب» أنا تأمُّلية مصابة بحمىَّ القلق، بالخوف على المصير، المستقبل العربي الذي هو (قومي). متعب صاحب رؤى، ومأساته في مدن الملح مأساة جمالية/ فلسفية. ومن ثمَّ هي مأساةٌ أخلاقية. فـ (ابن نفاع) الذي اشتغل في الرواية إماماً للصحراء، نلاحظ أنَّ اختيار الصحراء رغم كثرة المدن العربية وما دخل عليها من كماليات (الحداثة): عمارة بيتونية + شوارع معبَّدة + مسابح + سيارات + طائرات + راديو، تلفزيون، (كمبيوتر) حاسوب + أفلام (بورنو) + الجسور المعلقة + مكيفات الهواء البارد والساخن + الهاتف المحمول، الوسائد الهوائية. زائد وزائد. كلَّ هذه الزيادات والزوائد لم تستطع أن تبتلع, أن تُهجِّنَ عقيدة معتقدَ, رأيَ (بدوية) متعب الهذال وابن نفاع والذي برجعيته - سَمِّها بعفويته، سمِّها ببدويته، برجعيته، بما تشاء، كان يرى الغرب كافراً لأنَّهُ استعمار، استعماري. فينخرط، يذوب في المجتمع (المديني). حتى «مفضي الجدعان» أحد أعمدة الخيمة الروائية لمدن الملح إلى جانب متعب وابن نفاع لم يكن يحتاج في ممارسته لمهنة الطب الشعبي – إذ كان (حكيماً) كيمائياً، كان طبيب القبيلة، العشيرة، ويداوي أبناءها بكل ما أوتي من حماسة تتغذَّى من فطرةٍ سليمة – لم يقبل، لم تغشَّه أبخرة العولمة ولا أجهزتها التي تكشف المرض حتى وهو في مهده. المنيف كان بإمكانه أن يلعب بالجملة الفلسفية، بالنصِّ الفلسفي فيصير يكتب مثل برنارد شو، يرسم ساخراً: نملةٌ تجرُّ فيلاً كسيحاً إلى جدول ماء ليشرب. المنيف يقتل الفيل حتى لو كان فيلاً, طالما هو عاجز – ثمة (نيتشوية) يتميَّز بها فكرُ المنيف. نيتشوية اصطفائية تأتي من رغبة أبطاله، كائناته. بل من رغبته في دفعها نحو الموت ليس كمصير – نتيجة، لكن حتى تحافظ على طهرانيتها على براءتها الوطنية والقومية. وأعتقد هذا بعض مما تركه ونحن نتذكره اليوم في عيد رحيله.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية