|
ملحق الثقافي منذ عشرين عاماً عرفت هذا الحارس العجيب لـ طابور الأحزان والمفارقات العجيبه، ومن ذلك الحين لم نفترق، إلى أن حضر فعل الغياب، فكسر جملةً عاليةً في تكوين هذه الألفة الشغوفة، إلى حدِّ المرارة والالتقاء اليومي. واحدٌ من أكبر الأثرياء بالهموم والأسى، «نهبته» الكوابيس نهباً قاسياً، لكنَّه لم يُحضر من أجل ردعها وصدِّها أية ضابطةٍ عدليةٍ، أو شرفيّةٍ، واكتفى بمصادقتها، ومحبّتها، وآواها في غرفة قلقه، وعاشت معه على وسادة واحدة، وذهبت إلى المقهى ،وعاينت بردى، بشوق وهو يتدفق، ورأته بعين الخشية المرتبكة وهو يتوقف عن الجريان. قال لي، ونحن في مقهى أبو شفيق، على مقربةٍ من شجر الحور والصفصاف القديم: إنّه مثلُ بردى يتدفق في الشتاء،ويتوقف عن الكتابة ويجفّ في الصيف.. وعن الكوابيس قال: أخبرك بأمر لم أقله:لم أنم يوماً إلا وجدت قصائدي كمثلِ صفين من شجرٍ حزين، ويدايا مقطوعتان،ولاأقوى على حمايتها!! الغياب كـ حرف جرٍّ غير زائد، يظلُّ بين الكلمة والكلمة، وبين اللقاء واللقاء، لكننا لانجيدُ إعرابه، وتوضيح أدائه، ولعلّنا لانرغب ولانجرؤ على شرحه، لأنّه كالحبيبة الغافية على حلم البحر، توقظها الموجةُ ،ثمَّ لاتنام.. كذلك فعل الغياب سيِّدُ الأفعال والهمزات والرفع والجرِّ، وتثبت في نهاياته حروفُ العلة. في سنة بعيدة قليلاً رحل الكبير نديم محمد تاركاً ميراثاً ضخماً من الألم والمرارات والقصائد العالية، الممسكة بدهشة العصف والمطر،وسقى الروح سقياً عذباً، وبعده حاورنا الغياب بمبدعين أصدقاء كبار، كان آخرهم عبد المعين الملوحي.. وها هو صديق الحزن الأبدي، يُوجز علينا غيابه كمفارقة، غير قابلة للتأويل، وكنصٍّ تركه الحبر مأخوذاً بفتنة الكتابة، وانتهت علامات الترقيم، وإشارات الاستفهام والمرور إلى حيث «الأريكة» المهجورة، ولوحات الفنانين الأصدقاء المعلّقة على الجدران، وصور الزوجة والبنتين، و«العصفور الأحدب» الذي رسمه فاتح المدرس، على شكل كابوسٍ«ماغوطيٍّ».. وعلى الباب اسم محمد الماغوط..وإلى جوار الأحلام رائحة حرائق لم تكنس عن جسدها خيبات الانطفاء والنار، المهزومة أمام الذكريات.. سكنت الكلامَ كقديس، اعتزل الحياة باتجاه صخبٍ عميقٍ مقيم في جذوة الروح.. وسكنت فواصل العمر المعتّقه بدمعات الحبر، وأنين الهواجس،المتروكة كحاجات باهظة في مستودع التأملات.. سنسأل طويلاً عند كلِّ ظهيرة عن صوتك وملامحك الداخلة في عهد أكيد مع الوضوح والبراءَة والأسى. كلّ نيرانك أشعلها الأسى، وقصائدك أوجعت خصرها وحروفها فراقات الأحباب والأصدقاء، والطفولة.. لكن كما أوصيت صديقك«السياب»:ألا يضع على قبره أية علامات!! سنظلُّ نهتدي إلى مفارقات روحك الذائعة الصيت في حضرة اللغة والأرق ومحبتنا، التي كتبها حضورحك وحبرك، وأكملّها درس الغياب!! |
|