تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


محطـــات ثقـــافية

ملحق الثقافي
11/4/2006
فايز خضور

«من الخَفرات البيض، وَدَّ جليسُها، إذا مااْنقضتْ أُحدوثةٌ لو تُعيدُها.». تلك هي عَزّة، وذاك هو كُثَيِّرُها. ولكن كيف هي الحال لو أدرنا مقابلة مقارنة، فيما بينه وبين أستاذه جميل..؟!

لقد اتفق الرواة- وليس لدينا سوى ذمتهم- على أن جميلاً كان قويَّ البنية، طويلَ بيّن المنكبين، وأنه من أكابرالشجعان، وغاية في الهيبة والجلال، حسب ماجاء في كتاب الأغاني، المجلد الثامن. بينما كان كثيِّر نحيفاً مفرط القصر، وحتى اسمه تمَّ تصغيره. وفي الوقت الذي كان فيه جميل يتعرض لقوم محبوبته، بعد أن توعّدوه بالقتل، فإنّ كثيّراً المسكين قد تعرّض يوماً لعزّة، وزوجها حاضر، فأمرها الزوج بشتمه في وجهه، فقالت له ياابن الفاعلة، وفي ذلك قال: يكلِّفها الغيرانُ شتمي وما بها هَوَاني، ولكن للمليك استذلَّتِ./ هنئياً مريئاً غيرَ داء مخامرٍ لعزّة من أعراضنا ما استحلَّتِ.». العقل السليم في الجسم السليم، كما درجَ المثل الشائع .ولكن الطول المحمود ليس هو الطول المفرِط.و لهذا نجد في أوصاف الأنبياء والعظماء أنهم كانوا« رَبْعةً» بين الرجال. ولكن كثيِّراً مفرطٌ في القصر، ولايقام له وزن إلا بعد أن يدلَّ على نفسه بأدبه، والأدب لايجد من يقوِّمه في جميع الأحوال. وفي القرآن عبارات صريحة في أن انصراف الأغنياء عن متابعة الأنبياء يرجع الى مزاحمة الفقراء. فالغني لاتهمّه الآخرة لأنه فرح بدنياه، أما الفقير فتهمه الآخرة ليعوِّض ما فاته من النعيم في دنياه..!! الجماهير في العصر الأموي اختلفت في الموازنة بين كثيّر وجميل في الغزل والتشبيب.و كان كثيّر نفسه يفصل في القضية فيقول: وهل وطَّأَ لنا النسيبَ إلا جميلٌ؟والنقاد مجمعون على أن جميلاً أشعر من كثيّر في الغزل. يقول ابن سلاَّم الجُمَحي إن كثيراً «يتقوَّل»، وإن جميلاً هو «الصادق» في الصبابة والعشق. وتبعه في هذا الرأي نقاد آخرون، مثل أبي عبيده. فهل نظرية« مركّب النقص» التي تقول بأن الرجل حين يشعر بضعفه في جانب يحاول تقوية باقي الجوانب ليصير من الأعلام .هل هي التي أوصلت كثيراً إلى هذه المرتبة الرفيعة من الأدب والشعر والشهرة الضافية التي تنقل اسمه من جيل الى جيل.؟!. ربما. ولكن الشعور بالضعف والنقص لايوحي الى جميع الضعفاء بفكرة التغلب والتفوق. ففي كل عصر ألوف وألوف يشعرون بالضعف ثم يموتون ضعفاء. وفي كل عصر ألوف وألوف يشعرون بالحقارة ثم يموتون حقراء.ونظرية عقدة النقص لاتتحقق إلا بوفرة الزاد المكنون في قرارة النفس، والروح، والفؤاد.. وهذا ماكان متوافراً لدى كثيِّر وأمثاله. وقد كان شعلة من الذكاء.. فقد لقيه الشاعر الفرزدق فقال: ياأبا صخر، أنت أنسب العرب حين تقول: أريدُ لأنسى ذكرها فكأنما/تَمَثَّلُ لي ليلى بكل سبيل» وهو يعرِّض له بسرقة هذا البيت من جميل.فقال له كثيِّر:وأنت ياأبا فراس أفخر الناس حين تقول: ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا/ وإن نحن أومأنا الى الناس وقّفوا». يعرِّض له بسرقة هذا البيت من جيمل. وانزعج الفرزدق من ذكاء كثيِّر فقال له: هل كانت أمك مرت بالبصرة.؟. فأجاب كثيّر: لا، كان أبي..!!. والذكاء لايخلقه النقص وإنما هو موهبة..وكان كثيِّر إذا ذُكر له جميل قال: وهل علَّم الله ما تَسمعون إلاَّ منه.؟.» لأنه شاعر فاتته نضارة الجسم ولم تفته نضارة الروح..وكان من حظ عزّة أن يعرفها كثيِّر فيجعل منها غُرّةً في جبين الوجود. ولوفاتها حظُّ التعرف لطُوي اسمها كما طويت أسماء المئات من العزات.. وذات مرة لامت عاذلةٌ كثيِّراً في أن يَخصّ عزةَ بتشبيبه،فقال: لقد سار بها شعري، وطار بها ذِكري، وقَرُبَ بها من الخلفاء مجلسي وإنها لكما قلت فيها : فأقسمت لاأنساكِ ما عشتُ ليلةً، وإن شَحَطتْ دارٌ وشطَّ مزارُها.وإني لأسمو بالوصال الى التي/يكون شفاءً ذكرها وازديارُها./ من الخَفِراتِ البيض لم تَرَ شقوةً/ وفي الحَسَب المحض الرفيع نِجارُها..!!. تلك هي عَزّهُ الكثيِّر.وذاك مقامها.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية