تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


رائحة الغرور

ثقافة
الخميس 15-7-2010م
محمود شيخ عيسى

يشبه شوق الكاتب في انطلاقه إلى المطبعة متأبطاً عصارة تفكيره وخلاصة رأيه وتدبيره ليراه على شكل كتاب، شوق الموفد راكب الطائرة التي بدأت هبوطها التدريجي على أرض المطار،

فالمشتاق الأول يتخيل الأثر الذي سيحدثه ظهور كتابه وتدافع الجمهور لتلقفه وتقليب صفحاته وتحبير كلمات المدح والثناء على الجهد الذي بذله مؤلف الكتاب في تقديمه على هذه الصورة المشرقة إلى القراء الذين سيتدافعون زرافاتٍ ووحداناً لاقتناء نسخة أو أكثر من الكتاب الذي ستنفد نسخة ويتنادى المحبّون يحثون الكاتب على طبع نسخة ثانية وثالثة وربما عاشرة.‏

أمّا المشتاق الثاني فتتراءى له صور الأهل والمحبيّن الذين ينتظرون قدومه على أحرّ من الجمر،ويعدّون العدّة للاحتفاء بهذا القدوم الميمون، فتنهال عليه الدعوات إلى الولائم الفاخرة العامرة من كلّ حدب وصوب، ويجلس بين أقرانه جلوس القائد المنتصر في المعركة يحدّثهم عن البلاء الذي أبلاه في المغترب، وكيف حرص على اسم بلاده هناك فنقشه بأحرف من نور بحصوله على المؤهل العلمي الذي أوفد للحصول عليه،وبارتياده المكتبات والمراكز العلمية والبحثية للتزود بأرقى العلوم والمعارف، وعن مشاريعه لخدمة بلاده بما جمع من كنوز العلم في الخارج.‏

لكن شوق كل من المشتاقين ليس كافياً بحال من الأحوال للحكم على صدق الصورة القادمة، ففي الحالة الأولى لايعني إرسال الكتاب إلى المطبعة أنّ محتواه قد يكون جيداً، والحكم الفيصل هو القارئ الذي يستطيع أن يميز الخبيث من الطيب، ويعرف إذا كان الكتاب يضم بين دفتيه من فكر ممتاز يطابق ماقدّم له الكاتب من إعلان بأنه سيكون صيحة في عالم التأليف.‏

وفي الحالة الثانية لايمكن الحكم على الرصيد العلمي الذي عاد به ذلك الموفد إلا بعد أن يدخل سوق العمل ويبدأ بتطبيق ماتعلمه نظرياً على أرض الواقع.‏

والنقطة الخطيرة في المثالين هي إلحاح المؤلف الذي وضع الكتاب والموفد الذي عاد بالمؤهل العلمي المطلوب على أن يكون الواقع الذي تخيّله مطابقاً للصورة التي رسمها قبل ظهور هذا الواقع، بمعنى إيمان الكاتب بأنّ كتابه سيكون فتحاً مبيناً في دنيا التأليف، وإيمان الموفد بأنّ شهادته ستكون وثيقة شهرته وظفره بالمكان السامي بين أبناء مجتمعه.‏

الواقع هو الذي يجب أن يطغى على التفكير والفرق كبير بين ماهو كائن وبين ماتخيلناه كائناً، فكم من كاتب بدأ بداية جيدة ثم سرعان مااستسلم لأوهامه بأنه بلغ الغاية التي ترام في عالم الكتابة، فانشغل باحتفاله بنصر موهوم أصاب منه مقتلاً ، فجاءت كتابته في المراحل التالية ضعيفة هزيلة لاتبشّر بعطاء جيد.‏

وكم من عالم بدأ بداية جيدة ثم وقع في شرك الغرور فانقطع عن القراءة ومتابعة مااستجد في دنيا العلم متصوراً أنه أحاط بعلوم الأرض كلها ولن يحتاج بعد اليوم لقراءة سطر واحد!!.‏

التواضع في الحالتين مطلوب، وهذا التواضع من شأنه أن يحث الكاتب والباحث على تجويد وتحسين المادة العلمية الفكرية المقدمة من قبلهما، ويجعلهما قريبين من عقول وقلوب الجمهور الذي سيبتعد عنهما إذا شمّ رائحة الغرور تفوح من ثيابهما أو أحس بها في أقوالهما وأفعالهما.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية