|
ملحق ثقافي والموضوع، في ظاهره، هو كل قضية روحية كانت أم مادية. فمن الناحية الروحية، ينشأ الاعتقاد في المحاكمة العقلية الموضوعية، فيخضع للشك.
ومن الناحية المادية، يصبح الاعتقاد راسخاً لفترة ما، لمرحلة ما، ليخضع مرة أخرى لتعليل جديد أو لوعي أفضل،فيخضع للشك. وتبدو الحقيقة بأنها نسبية لاتعبر عن جوهر أو ماهية.. ويجتاز العقل هذه المراحل التي تتوازن في الشك واليقين معاً. ولما كان العقل يسعى الى معرفة الحقيقة عبر معطيات المادة، فإنه يدرس الأجزاء أو الجزء الواحد. ولما كانت دراسة الجزء الواحد تضيّع على العقل إمكانية التوصل الى وحدة الوجود، كما ينبغي في الجزء الواحد. وتصبح المشكلة شائكة إذ تعتبر مسألة تقييم. ولما كان الإنسان لايدرس الوجود ككل واحد، ولايستطيع أن يتعمق في دراسة جميع العلوم على السواء، الروحية منها والموضوعية، فإن العقل يتيه في محاولة إدراك الجزء وفهمه.هذا الجزء الذي لايوجد بمعزل عن الأجزاء الأخرى.وفي هذا الوضع، يتشتت العقل في هذا العالم الواسع الذي تجمعه الوحدة.. هذه الوحدة التي تجعله كلاً منسجماً، وكاملاً ومعبراً عن حقيقة واحدة. إن العقل الإنساني، الذي يتجه اتجاهاً كلياً الى دراسة جزء، لايرى سوى وجود الجزء، ولايستطيع أن يتصور وجود الكل في الجزء المنعزل. ولئن كانت الخلية وحدة قياس للدراسة والعمل، لكنها ليست قانوناً مطلقاً وشاملاً، ومعبراً عن جوهر الوجود، وذلك لأن الوجود ليس خلية واحدة والحق، أن هذا العقل الذي ينصرف الى هذه الدراسة، ولايجد سوى حركة بسيطة، ويعجز عن ربط هذه الحركة بالحركة العامة والكلية، التي على أساسها يوجد الكون ويتحرك ويحيا، لأنها لاتتقبّل أي تعليل غير التعليل الذي يسوّغ، من خلاله،التجربة والقياس. وفي الوقت ذاته، لايتقبل الآراء التي تتحدث عن النرفانا مثلاً، وعن السمو الروحي والوعي الكوني، وتسامي العقل الى العقل الفوقي، وانبثاق الانسان من الحقيقة السامية وعودته إليها، ووجود المخلوقات من كيان غير منظور وغير ملموس.ويقف العقل موقف المحتار لأنه يقر باليقين في ما يزعم أنه يراه ويشك في مايزعم أنه لايراه. فيكون اليقين أقرب القيم الى الشك. وفي سبيل الإجابة عن حيرة كهذه، أسأل مايلي: هل استطاع العقل أن يجد اليقين التام، أي الحقيقة في تجربته للجزء، وفي إدراكه الحسّي المباشر؟ فإن هو وجدها فعلاً، فلابدّ وأن يقف العلم عند الحد الذي وصل إليه دون أن يخطو خطوة جديدة في حقل التطور والمعرفة. لكن العلم، بعكس هذا القول، يتطور في دراسة المادة، ويخطو خطوات جديدة.وهذا يعني أن العقل البشري يبحث دوماً، ويكتشف معلومات جديدة في التجربة ذاتها التي أقام عليها اليقين القائم على الإدراك الحسّي.وهذا يعني أنه لم يتوصل، ولن يتوصل الى معرفة الحقيقة الكاملة والكلية في الجزء، بل يرى جزءاً منها.أما الحقيقة الكلية فلن يستطيع أن يراها أو يجدها إلا عندما يعي الوجود ككل في عمق التأمل. إن التأمل يساعد الإنسان على تخطي حدود الإحساس،والسمو إلى مستويات أعلى في سلسلة الوجود الكبرى.و هذا لايعني أننا ملزمون بإهمال الإحساس، بل يعني أننا ملزمون بدراسته جيداً لكي نتخطاه، أو نسمو به، إلى مستوى أكثر عقلانية يسمى الشعور أو الحدس. فالإحساس يطلعنا على الموضوع كما هو، وينقلنا الى مستوى أعلى يساعدنا على رؤية ماهو أبعد. أما الشعور الماثل في التأمل فيزودنا بصورة الموضوع.وتساعدنا هذه الصورة على تمثل الوجود على نحو أفضل. وهكذا، لايبقى العقل مكبّلاً بالإشراطات وعاجزاً عن المعرفة، ولاي خضع لتأثيرات التجربة الحسّية والإدراك الحسي، ولايكتفي باليقين الناتج عن دراسة أجزاء الكون،ولاينفي الوجود الكلي اعتماداً على هذا اليقين الضيق. وعلى غير ذلك، يفعل في الوجود بطاقة جبارة لاتعرف الهزيمة. فهو يغوص الى أعماق المادة ليجد، وهو يتأملها، أن المادة ظاهرة للروح التي تنبث في الكل وتوجد في الأجزاء،فيعقل ويشعر بالوجود عبر دراسة المادة التي يصعد بها، على نحو تروحن، الى وجودها الحقيقي. يتولد الشك من دراسة الجزء المعزول ، ومن محاولة إخضاع الوجود الكلي لقوانين معزولة، منفصلة ومتعارضة أو متناقضة. فمن ناحية، يعد قانون نيوتن في الجاذبية صحيحاً لأنه يطبق في زمان ومكان مطلقين،فهو إذن يقين. وتعد النظريات الرياضية صحيحة لأنها تطبق في زمان ومكان، فهي إذن يقين. وتعد قوانين الحرارة والضوء والحركة صحيحة لأنها تطبق في زمان ومكان، فهي إذن يقين. ومن ناحية ثانية، يعد قانون نيوتن في الجاذبية ناقصاً لأن نيوتن أبدعه في زمان معين ومكان معين، فهو إذن ليس كاملاً. ولما كانت المادة في صيرورة لانهائية، في حركة ديناميكية مستمرة دون انقطاع، في تبدل دائم، فإن قوانين الحركة تتعدّل على نحو تبدو متبدلة، فهي إذن شك. وتعد المعادلات الرياضية ناقصة لأنها تصعد سلّم رتب الكمال في المستقبل الذي يتحقق فيه المزيد من الوعي والمعرفة، فهي إذن شك.وتعد نظريات الحركة والضوء والحرارة والسرعة نسبية لأن التبدل والديناميكية يسريان في مضمونها وهي متجهة الى المزيد من الكمال، فهي إذن شك. في هذا المنظور، ندرك أن التجربة لاتكتمل، بل تسعى للكمال. إنها لاتبلغ كمالها ما لم تعبّر عن حقيقة مطلقة. لذا، لانستطيع أن نقول: إن المعرفة قد وصلت، من خلال التجربة المختبرة، الى كمال الحقيقة المطلقة، الأمر الذي يجعلها ناقصة. |
|