|
ثقافة ولعل مرد هذا الإلحاح على الوصف في جميع أعماله، عقليته الهندسية التصويرية اللونية للأشياء والموجودات في الطبيعة وتفكيره العلمي المطلق المملوء بالتحدي ومواجهة الواقع مواجهة جديدة وتحليل عناصره ومكوناته تحليلاً جديداً يقوم على الوعي به من الداخل و (أنسنته) أحياناً، ونحن هنا نورد مقطعاً من روايته الموسومة بـ (الغيرة) لندلل على هذه الخاصية الوصفية التي اتسمت بها أعماله: «يقسم آلان العمود -العمود الذي يحمل زاوية السقف الجنوبية والغربية- الزاوية المطابقة للسطح إلى قسمين متساويين، هذه الشرفة هي رواق عريض مغطى يحيط بالمنزل فوق جوانبه الثلاثة، ولما كان عرضها هو نفسه في الجزء المنصف وفي الفروع الجانبية، فإن خط الظل الذي يعكس العمود، يصل تماماً إلى زاوية المنزل ولكنه يتوقف هناك لأن الشمس التي لا تزال في أعلى السماء لاتبلغ إلا بلاطات الشرفة وحدها.. الخ». وتتميز الرواية الجديدة التي مثلها ريادة وكتابة ونقداً ودفاعاً «غرييه» بعدة ميزات عن الرواية العادية، أولها أنه ليس هناك من وجود لحقيقة واحدة هي حقيقة القصة المحكمة البنيان، بل إن هناك لعب الإمكانيات غير المحدود أو المنظار السحري في مجال الرؤية والتراجعات الورائية (الخطف خلفاً- فلاش باك) في نهر الزمن، وثانيهما أن الرواية الجديدة تستخدم كل الوسائل لكي تهرب الحقيقة من ذلك البناء المفتعل التسلسل الذي كانت تستخدمه في عرض الأحداث بالحبكة التقليدية وتمثله الرواية الواقعية وفن الراوي، إنها تسعى إلى (تحطيم) الآلية الرتيبة للتصوير الاجتماعي والسيكولوجي، وتعتمد على فن «التواقت» فتمزج المغامرات بالشعور ويتقاطع فيها الواقع باللا واقع وثالثها أن الرواية الجديدة كالشعر الذي جاء بعد (المدرسة البودليرية) يعني باكتشاف، «الواقع الشعري» قبل أن تشوهه وتمسخه الرؤية النمطية التي تواضع الناس فيما بينهم على النظر بها إلى الأشياء إنها ترفض هذا العالم المعاد بناؤه، عالم الوصاف «الكلاسيكي» والراوي الاستاتيكي» وفي سبيل عالم وحشي بكر لم يشرح فيه كل شيء ولم يفسر كما يشرح ويفسر في المدرسة الابتدائية. ومهما يكن من أمر فإن الرواية الجديدة تعبر بكل بساطة كما يقول «ر.م. اليريس» عن التعارض الذي ولد بين المواضعة الروائية والرواية الساخرة أي بين الرواية الشعرية والرواية المخالفة للسنة الروائية، إنها تسعى بحس سليم سهل جداً إلى تحرير الخلق الروائي في الإفلات الفني من الواقعية البرجوازية في بعض أشكاله، وهكذا فإن القطيعة بين الأشكال الحديثة والأشكال التقليدية في الرواية تقوى يوماً بعد يوم، بمعنى أن ماكان أساسياً في الرواية كالعقدة والأشخاص ووصف المجتمع يتحول أكثر فأكثر إلى شيء آخر تعبرعنه «ناتالي ساروت» قائلة:«إن القاص لم يعد مطلوباً منه أن يثير فضولنا بعقدة روائية آخاذة أو أن ينسب أشخاصاً أحياء يشابهون الحقيقة أو أن يصف وصفاً لامعاً ودقيقاًَ وسطاً مجتمعياً معيناً أو أن يحلل بلغة كلاسيكية موقف القلب البشري تحليلاً جيداً..». على أن آلان روب غرييه يعتبر من أهم المنظرين للرواية الجديدة وخاصة في كتابه (الطبيعة الإنسانية والمأساة) الذي يطالب فيه بنوع من الكتابة تصف وتتناول الموصوف وصولاً إلى (الصورة الخلاقة) تلك التي تفجر المفاهيم السائدة وتحرر القارىء والكاتب في الوقت نفسه من التصور المكرور والمشوه للعالم. وهذا النوع من الكتابة يلزم الأديب بـ (الابتعاد عن التصاقه الذاتي بالنص في سبيل كتابة متأملة لذاتها «فهذه الكتابة الصعبة هي التي تؤدي بشكل جدلي إلى موضوعية أكثر. ويدافع غرييه عن الرواية الجديدة بجميع منجزاتها ونتاجاتها ضد من ينفي عنها تسمية الرواية وضد من يجردها من صفة الجدة من النقاد المتشددين المتعصبين للأصول والقواعد الروائية المتواضع عليها بعد أن مضى على ولادة آثارها مايقرب من نصف قرن آنذاك قائلاً: -«إن أعمال ناتالي ساروت الأخيرة، وكلود سيمون وكذلك روايتي (من أجل ثورة في نيويورك) قد بيع من كل منها عشرات الآلاف من النسخ منذ صدورها القريب، بل إن روايات ساروت الأولى مثل (مناخات) وكتابي «الغيرة» الصادر عام 1957 مثلاً لايزال يعاد طبعه ويباع في فرنسا والخارج..». وأخيراً.. قد يحق لنا أن نسأل مثل هذا السؤال:هل هناك أوجه تشابه بين الرواية الفرنسية الجديدة والموجة الجديدة في السينما؟. بشكل عام التشابه موجود وهو يكمن في مسألة «التجريب» في كلتيهما، وكذلك فإن الاتجاهين في الأدب والسينما هما تعبير عن (العصر) أو محاولة مكللة بالابتكار لتفسير الحياة المتشابكة المعقدة للإنسان في زمن حضاري متسارع الإيقاع إلى زمن مقونن، يبدو أن كل شيء فيه يخطف خطفاً وينجز على طريقة الحلاقة بالكهرباء، لم تعد هناك حاجة للإفاضة في الوصف الممل كما في الكلاسيكيات الروائية الأوروبية والسوفييتية (الدون الهادىء مثلاً لشولوخوف) أو الانسياق مع التفاصيل (كما في سينما الأربعينيات العالمية مثلاً) التي غالباً ماتكون دخيلة وغير ضرورية للعمل الأدبي الروائي أو الفيلم. في الرواية الجديدة وفي أفلام الموجة الجديدة كل كلمة وكل نقطة، كل لقطة وكل زاوية تضيف جديداً وتكمل البناء، فالإنسان بحاجة شديدة إلى الفهم حيث تفوق حاجته للاستمتاع وهو أيضاً «بحاجة لأن يجد نفسه بالحجم الطبيعي لا لأن يتطلع من جديد إلى البطل المثالي أو لأن يُحكم بمواصفات البطل» |
|