تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ويبقى الوطن ... أولاً

آراء
الأثنين 4-5-2009
محمود شيخ عيسى

(لنكن لطفاء وأوفياء مع الآخرين) عبارة يردّدها الكثيرون دون أن يعوا مضمونها، لكنهم يبرهنون خلال الممارسة العملية أنهم يقفون على الضفة المعاكسة تماماً لهذا المضمون، يظهر ذلك جليّاً في طريقة إدارتهم وتعاملهم مع الآخرين.

وتأتي الظروف الخارجية لتكرّس هذا الواقع المزعج في ممارستهم، فكأنّ الناس في مجتمعنا تعوّدوا عادة سيّئة تتمثل في تخزينهم الملاحظات والانتقادات للشخص الذي لا تروق لهم تصرفاته وأفعاله، يخزنون كماً ضخماً من سهام النقد ويرون اللحظة المناسبة يوم تزلّ قدم هذا الشخص، فيحزم حقائبه تاركاً كرسيّه لمن ابتسم له الحظّ من بعده.‏

يستقبلون الوافد الجديد بالبشر والترحاب، ويكيلون له عبارات الثناء والمديح معربين عن تمنياتهم له بالنجاح في المهمّة التي أسندتْ إليه، وإلى هذا الحدّ تبدو الأمور مقبولة كونها تدخل ضمن ما يسمّى بالمجاملات الاجتماعية، علماً أنّ البعض يرى أنّ مثل هذه المجاملات تشكّل التربة الخصبة لولادة ضرب مقيت من ضروب النفاق الاجتماعيّ الذي يجب أن نعترف أنّه غزا العلاقات القائمة فيما بيننا كأفراد مجتمع غزواً مقلقاً.‏

هذه التربة هي التي تفرز الجراثيم التي يمكن اعتبارها سبباً قادماً لانحراف الوافد الجديد، فقد يرى أنّ الذي حمل جراراً ملأى بعبارات الترحيب به والتهليل لقدومه الميمون يصلح لأنّ يكون مقرّباً أثيراً لديه، يمكن الاعتماد عليه في الأعمال الخاصة بالوافد، وهنا يحصل خلط منكر بين العام والخاص، تذوب المصلحة العامة في المصلحة الشخصية، ولن نفاجأ بعد مرور وقت قصير أنّ الأشخاص الذين أتقنوا لعبة الرقص على الحبال والميلان مع الريح حيث مالتْ هم الأشخاص الذين يحظون بالانضواء تحت أفياء المسؤول الجديد وهي أفياء ناعمة وارفة.‏

في مثل هذه الحالة تستبعد الكفاءات وتغيب المهارات ويصبح الولاء للمؤسسة رقماً هامشياً، ويوماً بعد يوم يبدأ المنافقون بنسج هالات التعظيم والإكبار لوليّ نعمتهم وهي في حقيقة الأمر خيوط تغرقه في الخطأ والابتعاد عن جادة الصواب، وستكون الأرجوحة التي تطيح به في مرحلة تالية.‏

أما أولئك الذين يعملون لصالح الوطن فيؤثرون الابتعاد عن المشهد الذي اختلطت فيه الامور بصورة مريبة، يرضون أن يظلّوا الجنود المجهولين الذين يسخّرون كلّ ما لديهم من طاقة في خدمة الوطن إيماناَ عميقاً منهم أنّ الوطن خير وأبقى.‏

ولا بدّ من توجيه التحية لهذا النمط من رجال الوطن المخلصين له ، مع الإشارة إلى أنّهم لا يقتصرون على أولئك المخلصين للعمل لا لربّ العمل، لأنّ كلّ من أضاف لبنة إلى صرح الوطن الغالي هو في نهاية المطاف ذلك الجنديّ المجهول الذي حمل حبّ الوطن في قلبه واندفع يساهم في رفع صرح حضارته بهمّة لا تلين وعزيمة لا تفتر.‏

صاحب رؤوس الأموال الكبيرة الذي يرفض إغراءات الاستثمار خارج حدود وطنه إيماناً منه أن توفير فرص العمل لأبناء الوطن رسالة من أسمى الرسائل، صاحب الفكر الخصب الذي تفتق ذهنه عن بناء صروح علمية حضارية تزوّد أبناء الوطن بمفاتيح العلم والمعرفة ليكونوا رجال الغد المشرق المساهمين بعلمهم في مسيرة إعلاء شأن وطنهم الغالي، التاجر الذي يحرص على توفير السلعة الجيدة بالسعر المعقول جاعلاً التفكير في تحقيق الربح آخر همّه، الشرطيّ الذي يقدّم حياته دفاعاً عن سمعة سورية وطن الأمن والأمان، كلّ هؤلاء هم جنود مجهولون سلاحهم عقيدة تعيش في داخلهم هي عقيدة الإيمان بالله ثمّ الوطن، وعندما يزخر وطننا بأمثال هؤلاء وهو بحمد الله زاخر بهم، نستطيع أن نكون مطمئنين إلى مستقبله المشرق، ويزداد يقيننا أنّ وطن الأجداد الذين نشروا نور حضارتهم في أرجاء الأرض كلها، سيكون منارة علم وحضارة يسافر ضياؤها عبر المعمورة.‏

أمثال هؤلاء الرجال الميامين يرون في المنصب إذا وصلوا إليه بجهدهم وعرقهم وسيلة لخدمة الآخرين، ويجسّدون حبّ الوطن واقعاً عملياً مصرين على إيمانهم بحقّ الوطن عليهم وضرورة ردّ الدين إليه، لأنّ الوطن أولاً وأخيراً خير وأبقى.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية