تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الميراث المغدور..؟!

آراء
الأثنين 4-5-2009
حسين عبد الكريم

حسناء الخيزران مؤلّف أنوثة، لاتصنيع فيها ولا ابتكارات تجميلية. أهدتها يد المصادفة والقرابة والمشاهدات إلى حبيبها، الذي صار زوجها، بعد لقاءات عديدة ولفتاتٍ ونظرات مليئة بالرسائل ومعاني الغرام والوعد..

مليحةُ ورصينة حارة الكروم، وهو سيّد المحبين والعارفين القادرين على استثمار الحب وتطويره وإنشاء عمارات وبيوت ترفد الأحباب، وتشهد على نضارة الرحمة في بساتين النفوس وأرياف القلوب. بقليل من الإمكانات يعيش محبّاً وطيّباً وإنساناً كبيراً وقويماً...‏

اجتهد بالقراءة والملاحظة والكشف المبكر عن معاني الخير ودلالات الأماني الحافُة بقوافل الروح ومطالع بهجتها.. وحسناء الخيزران احتفظت بمؤلفاتها البديعة من الأناقة البلدية، والأخلاق الحنونة.. لم ترقَ إلى مرتبة جوده، لكنها لم تعاكس أو تمانع رؤاه الجميلة من التحقق والعافية.. ودامت على صون حُبّه وأفراحه..‏

الزوجة التي لها من الحسن والرصانة ما لها، يمكنها أن تعترض على استثمارات الزوج الحبيّة، وأن تسطو على ثمار أشجار وجده وأغنيات وجدانه التي ذاع صيتها أكثر من (سوبر ستار) هذه الأيام...‏

أنجبت الحسناء ولداً أوّلاً لم يكن بمستوى منتجات رؤى الزوج العارف والزوجة الخيزرانة.. وبعده قدمت خيزرانات تالياتٍ تمتْعن ببعض رونقها وهواء حسنها.. تزوّج الولد، لكنّه لم يزدهر، ولم يتمكّن من النضارة، والتمتّع ببعض ألق الأب الزاهي كشجرة ضوء وغناء ومطر ورعاة. اغتربت روح الولد، وضاعت هدايته، وخان ميراث الرضا والقناعات، من حيث يبتغي أو لا يبتغي...‏

لم يقترب من سؤال الوضوح والحياة:‏

لماذا لا أصيرُ محبّاً وطالباً ناجحاً في مدرسة الحبِّ؟!؟ وأسئلة أخرى من عائلة السؤال الأول، لم يسعَ باتجاهها، أو يغترب إليها، بل اكتفى باغترابٍ اعتيادي، يعيث فساداً بالنفس، ويكبّدها خسارة فادحة، إذ يسطو على مقدرات ألقها، وفيما يأتي من خيبات يدمّر مفوضيّة قلبه وحبّه، ويتركه أعزل من التلاقي والرضىاوالقناعات.. ويهيم على وجهه كراعٍ ضاع منه قطيعه وخابت أماني مراعيه.. وهل أمرُّ على القلب من بقائه موحشاً من نبضه المحبّ؟!؟‏

تيمّناً بالأمِّ سمّى إحدى بناته حسناء، وتفاءل أن تكون كالجدّة خيزرانة الوقت والجيران والأقرباء.. لكنّ ثقافته كانت أضعف من أن تحمي ثقافة الألق والحسن والأنوثة المبتهجة، فضيّع الأسى والشقاء الابتهاج، وضاعت الحسناء...‏

احترقت نجمات ونيازك الحبِّ الأول.. والدروب أصيبت بالشلل الطفولي.. بحثت عن حنين يشفع لها بمدى غير معفّرٍ بغبار الخيبة.. لكن دون طائل.. سقط الحسنُ في فخّ الاشتهاء المتلعثم.. وانحنت قامة فألها انحناءة قاسية..‏

بعد حين هزمت قيد زواجها البائس أكثر من عَباءة (شحّاد) أعرج.. اختبأت وراء جدار الأحزان.. في هذه الأثناء لاح لها برق رجلٍ عريض المنكبين مستدير الوجه، ظنّته الممثل الشرعي لحبّها المغدور.‏

سألها أن تعطيه شوقاً ورقّة:‏

- هل يمكنك أن تكوني سيّدة الوجدان؟!‏

- وهل تملك وجداناً سليماً من الأمراض السارية والآفات، حتى أكون سيّدته؟ لأنّ السيادة تجدر بأحوالها وتتمتع بالعافية والسلامة العامة إن عثرت على مستلزماتها الشاقّة..‏

- تجرّ بين الحظّ مع وجداني، وبعد التجربة تحكمين..‏

- كامتحانات الصفوف الابتدائية: فكّر ثمّ أجب.‏

هنا تزوّج ثمّ فكّّر..‏

الوقت المصاب بعثرات السعادة، لا يتسع للتأملات والأفكار الجيدة والمتريثة.. ليس بمقدورها أن تقول له كالمديرين والوزراء والمسؤولين الجسام: للتريّث، أو مع عدم الموافقة...‏

بيته المشرف على البحر ومؤلّفات الموج والزرقة أرجع ذاكرتها إلى صفحات عمر الجدّ والجدّة.. وحين رجوعها اصطدم صحوها بقسوة الفقر والأب المرتبك ببؤسه الحياتي والنفسي، فعادت من جديد إلى ذكريات الكرم الواسع مؤلف أشجار التين والعرائش والمشمش وسمحت لعطشها أن يرتمي، في حضن نبع الدلبات يانع العذوبة.. المجاور لأفراح الجدّ وأغاني الاخضرار وبهجة الجيران الطيبين.‏

تأملت صورة الأيام المشرقة بحثاً عن شجاعة تكفي لمعاشرة الزوج الجديد، الذي لم يرث الحبُّ من وجدانه إلّا يابسة ً واحدة، وبقيت اليابسات الأخريات لوارث آخر هو الاشتهاء والجشع إلى المفاتن.. صارت نهباً للزوج، لكنّ المخيّلة بقيت مستقلة.. الجسد وأملاكه المدهشة رهن الزوج الجائع، أما الروح فقد تحالفت مع المخيلة لنسج ديباجة مفترضة، ورسم صور حبيبة...‏

أحلامها عوّضتها الكثير من المفقودات كالسعادة ورائحة الحبِّ والألفة والطمأنينة وسيادة الأناقة والأنوثة المدللة جميع ميراثها المهدور استعادته عبر أحلامها والمخيلة:‏

حلم الشجرات المسنّة الملتزمة بالمصطبة والدرب القديم.‏

حلم النبع والجرّة والإخوة والأخوات، الذين ثابروا على زيارتها في المدينة، حيث بيتها الكبير المقبل على كتاب البحر، كقارىء مجتهد.‏

وبين حلمٍ وحلمٍ اهتدت إلى قريبها:‏

- أنت حسناء الحفيدة؟‏

- ومن أخبرك؟‏

- كلمات ملامحك مقروءة كعطش في صوت قرية.‏

- تعبّر عن معلوماتك كجدي.‏

- جدك جدي.‏

- كيف؟‏

- ألا تذكرين أمّ يوسف؟‏

سؤالٌ بريء الذّمة تجاه أي إجابة..‏

ومنحدر من عائلة الوضوح والتأويلات المزدهرة: هل يقصد بأمّ يوسف، جارة الأب المستترة وراء غضب، لم يحن وقت إعلانه، لكنّها لا تمنحه حرّية الفلات من قبضة ملامحها، حتى أظنّها ستصرخ أوتبصق في وجه الفرح، من غير ذنب.. هي مخلوقة من شقاء معتّق في جوف الأيام، أم هي العمّة: أم يوسف شقيقة الصبر والمكابدات والرغبات الحادة، التي لا تقبل التأجيل، لكنها في أكثرها رغبات عائلية، تخصّ الأولاد والبنات والبيت والحاجات؟‏

قالت حسناء الحفيدة لنفسها، وهي تهمّ بالبكاء ومصافحة المصادفة: أمّ يوسف الجارة وأمّ يوسف العمة، كلتاهما صديقة الغضب المؤجل، غير المنصرف من الخدمة الإلزامية، في مأمورية ملامحهما.‏

تعززت القرابة بين الحفيدة الأنيقة المعزولة عن استثمارات الحبّ، والحفيد المشغول بالغربة والأسف، والقليل من التأملات...‏

لاحقاً للقاءاتهما تزوج القريب آنسة المدرسة القريبة من بيت الجد القديم ..‏

وأهدته الحسناء الحفيدة جرّة قديمة‏

سألها : ما هذه الجرّة المصابة بكسرٍ خفيف ؟!‏

ـ هي جرّة جدّنا وجدّتنا ، لكن أصابتها كسرةٌ ، وعليك إصلاحها بضمة قرابة أو بشدّة حب جديدة ، تعيد لميراثنا العافية والسلامة البيئّية ..‏

الجرّة في صدر البيت ، بعد أن رمم كسرتها الحفيد السعيد ، والحفيدة الحسناء واظبت على حوارياتها وزياراتها المسهبة مع القريب وزوجته الآنسة اللطيفة ، أملاً بميراث حبٍّ ودرس اشتياق طويل ..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية