|
ثقافة حيث يتابع تطوير خطه الاسلوبي بحركة تصاعدية، وصلت في بعض لوحاته الجديدة الى حدود التجريد اللوني الغنائي، رغم محافظته في بعض لوحاته على روحية العناصر الإنسانية والمعمارية والبحرية وغيرها، وهكذا يتحرر يوماً بعد آخر أكثر فاكثر، من ثوابت ومرتكزات النزعة التصويرية الواقعية، التي تهتم بإبراز الأشكال وتدرجات الظل والنور، والنسب وغير ذلك من المقاييس الأكاديمية الصحيحة.
تنويع تقني ويبدو صالح الخضر مرتاحاً في استخدام مادة الزيت إلى جانب الاكريليك والمائي والمواد المختلفة، ويظهر أكثر تحكماً بإبراز تداخلات، هذه المواد وابراز إضاءاتها وحركاتها الإيقاعية والمنسابة، مركزا على التأليف العفوي والعقلاني بآن واحد. فهو يختصر الأشكال والعناصر ولايبقي منها إلا إشاراتها المبسطة وعفويتها الدالة عليها، وأكثر من ذلك يجعلها متداخلة مع المساحات التجريدية، التي يكثفها في مكان يشكل بؤرة اللوحة، بينما تبرز المساحات الكبيرة محيطة بها أو تشغل باقي أقسام اللوحة. ومن ناحية الموضوع يرتبط في لوحات كثيرة بالواقع المأساوي الراهن في أزمنة الحروب والويلات والمآسي، وهذا يبرز في لوحات تحمل عناوين واضحة ودلالات تعبيرية مباشرة (دمنا المستباح، بقايا وطن، فكرت يوماً بالرحيل،هذا ماتبقى وغيرها) هكذا تبرز تنويعات تسطيح المساحات واظهار تداخلاتها وحركاتها الايقاعية، وفي أحيان كثيرة، تظهر اشارات العناصر الانسانية كظلال لا ملامح فيها، في خطوات طرح المواضيع المعبرة عن مرارة الواقع، ولأن الفن غير منفصل عن الحياة، فلا حدود ولا فواصل بين الفن والاحساس بأزمنة الرعب، ولهذا تظهر تأثيرات الأزمنة الصعبة، وبشكل دائم، حتى في لوحاته التجريدية، وذلك لأن اللون هو جزء من حياة الفنان، المشبعة في هذه المرحلة، بمشاعر القلق والهلع والتوتر والعنف والترقب والاضطراب. وهذا ما نجده في لوحات صالح الخضر التي تبقى، حتى في اقصى حالات التعبير اللوني التجريدي، مرتبطة بفواجع وكوارث الحروب الراهنة، وبالواقع المأساوي المخيف، الذي يروج للقتل والتدمير والعنف والارهاب، ولوحاته رغم عناوينها القادمة من جحيم ومرارة الواقع، تبقى قادرة على تجسيد مشاعر الطمأنينة والأمل والخلاص والاستقرار وبذلك تؤكد اشارات استمرارية الحياة، حساسية توزيع المساحات وهو يمتلك حساسية بصرية وروحية صادقة، في وضع المادة اللونية وتوزيعها وابراز ايقاعاتها، كما يمتلك قدرة على الاختزال في تكاوينه التعبيرية والرمزية والتجريدية، ضمن معطياته المناخية اللونية المحلية، مع إعطاء أهمية للجوانب التشكيلية الهندسية، فنجد التقاطعات الأفقية والعمودية، تطل في بعض لوحاته، التي يعمل فيها أيضاً على تخطي صفاء المساحة، وابراز خشونة السطوح وطبقاتها وخاصة في لوحاته الزيتية، وهذا يعمل على كسر أناقة المساحة، ويبعدها عن الإبهار الصالوني والتزييني. فالبحث عن مناخات مختصرة لتكاوين الأشكال الإنسانية والمعمارية والعناصر الأخرى، شكل في لوحات صالح الخضر، مدخلاً لالتماس بعض جماليات الفنون التشكيلية الحديثة، والقائمة على إلغاء الثرثرة التفصيلية، وإعطاء أهمية قصوى للإيقاع اللوني، والإبقاء على جوهر الحركة العفوية، التي تجسد روح الشكل الواقعي بعد إزالة تلافيف قشوره الخارجية. وهذا يعني أنه لا يتوقف عند حدود معينة في معالجة المادة والمساحة، وإنما يتنقل من معالجة إلى أخرى، ويصل أحياناً إلى إضفاء المزيد من اللمسات والحركات والتشكيلات اللونية المتجاورة والمتداخلة، والتي تأخذ اتجاهات عمودية وافقية متقاطعة ومائلة احياناً، مشكلة في بعض اللوحات تشكيلات لونية شبه هندسية، تتبدل من لوحة لأخرى، وتظهر بحساسيات بصرية مختلفة ومتفاوتة. وهو بذلك يعمل على إيجاد نوع من الموازنة والمواءمة، بين الجانب التعبيري المتمثل بتبسيط الأشكال وإبراز انفعالية اللون، وبين الجانب التجريدي الذي يعمل من خلاله على معالجة المساحة، وإيجاد إيقاعات بصرية اهتزازية في بنيتها التشكيلية للوصول إلى إيقاعات اللون، أو ما يسمى بموسيقا اللوحة وتقاسيمها المرئية المسموعة بالعين. وصالح الخضر يظهر حركة اللون التجريدي كعنصر بصري أساسي في اللوحة، إذ يبدو في احيان كثيرة، موزعاً على كامل مساحة اللوحة، إلا أن هذه الحركة لا تنحصر بما هو تجريدي كما أشرنا، إنما ترتكز إلى ما هو تعبيري ورمزي. وهو يذهب إلى إظهار كثافة المادة اللونية في أحيان كثيرة، وقد يستخدم تدرجات اللون الواحد على كامل مساحة اللوحة، ويعمل لإبراز حركات لونية عريضة، تضرب المساحة بعفوية وتلقائية محببة. لكن ما هو بارز في هذه الانفعالية هو ابتعادها عن العبثية والعشوائية، إذ أن التكوين العام للوحة يأتي مدروساً وملطفاً، وبالتالي فهو يصل إلى فسحات بصرية مريحة لعين المتذوق، تؤكد مدى اختمار علاقة الفنان بلوحته المتجهة نحو المزيد من التجريد والاختزال. facebook.com/adib.makhzoum |
|