|
الملحق الثقافي
إن تاريخ الإبداع السردي والقصصي لم يخضع في يوم من الأيام لقوانين الطبيعة، حيث لا يمكن مثلاً أن تتحدد حركة الأشياء والكائنات في العالم الروائي وفق قوانين ثابتة ومحددة من خارج هذا العالم. ليس هناك قوانين نيوتن لتتحكم بكيفية سقوط التفاحة في رواية. قد تسقط التفاحة من أعلى الشجرة إلى الأرض، وقد يحدث العكس فتطير التفاحة من الشجرة إلى الفضاء.. وكما أن الشخصيات في القصص والملاحم والروايات يمكنها ببساطة وببداهة أن تمشي على الأرض، فإنها تستطيع بنفس البساطة والبداهة أن تطير بواسطة بساط الريح السحري أو أن تحملها طيور خرافية إلى عوالم قصية. إن أي قيود أو معايير في حكاية أو قصة إنما تصدر عن المؤلف ذاته وليس عن أي واقع خارجي. لقد فهم الحكواتيون والرواة الأوائل هذه الحقيقة بشكل عميق. لذلك فإن الأساطير والحكايات والخرافات في التراث الإنساني لم تعترف بأي قوانين أو سلطة على حركة وحيوية السرد. إن هذا التراث يشكل بهذا المعنى النموذج الأول للحرية. إنها موهبة التحرر من الواقع. إن هذا النوع من الإبداع القصصي يقوم على فكرة التعبير عن الواقع، لا على التقيد به أو إعادة إنتاجه. لقد احتلت هذه الحساسية مركز الصدارة في التراث السردي في العصور الماضية. لكن ذلك تغير منذ بداية العصر الحديث، حيث تعرض مفهوم الواقعية لتأويلات ولتصنيفات همشت فاعليته. ولعل من أكثر الحيل التي استخدمت لتغريب مفهوم الواقعية هو ما ظهر من تصنيفات أطرت كل الأساليب السردية التي نزعت نحو التحرر من قوانين الواقع في أنواع مثل قصصص الخيال العلمي والفانتازيا وغيرها. فهل يعبر هذا التوجه في التصنيف عن تطور ونضوج أو استقرار لهذا المصطلح الغامض في المخيلة الحديثة؟! هل هناك اليوم مرجعية متفق عليها لمفهوم الواقعية في الرواية مثلاً؟ ما هي أهمية الواقعية كمصطلح وكمفهوم في الفن القصصي المعاصر؟ هل هذا الفن محكوم بنزعة التحرر من الواقع أم أنه ما زال أسيراً لأيديولوجية إعادة إنتاج الواقع؟ وهل استطاعت التجربة الروائية الحديثة تكريس ثقافة تميز بين قراءة الواقع وبين إعادة نسخه؟ هل يمكن للمشهد الروائي المعاصر أن يعبر عن ثقافة جمالية ما تتجاوز معضلة الالتباس التاريخي في معنى وجدوى مصطلح الواقعية؟ في أواسط القرن العشرين اعتبرت الأعمال الروائية التي كانت تجريبية على الصعيد اللغوي إنجازاً إبداعياً يضمر رؤية للمستقبل. جيمس جويس وفولكنر وغيرهما قدموا أعمالاً اعتبرت في وقتها نماذج عليا لثقافة المغايرة والتجاوز. وتحولت أعمال هؤلاء الكتاب إلى ظواهر تدرس في الجامعات وصنفت تحت عنوان “كلاسيكيات الرواية الحديثة”. وفي نفس هذه الفترة كان نوع آخر من الأدب يتطور ويجرب في التعبير عن الواقع. لكن تجريبية هذا النوع لم تكن في التلاعب باللغة، بل في التلاعب والتجريب في أنماط وأساليب وصور الواقع الذي يمكن للأدب أن ينتجها. بمعنى آخر، اتجه هذا النوع إلى اكتشاف ما وراء الصور المباشرة للواقع المحسوس دون التقيد بمحاكاة وتقليد الآليات التي تفرض علينا هذه الصور والأنماط في العالم الواقعي. لكن هذا النوع عانى في هذه الفترة من تهميش المؤسسة الأدبية والنقدية تحت عناوين صنفته في إطار الأدب الشعبي الذي كان غالباً سمة تطلقة على قصص الخيال العلمي والفانتازيا. ورغم النزعة المستقبلية لكتاب هذا النوع من الأدب، فإن معظمهم بقي خارج اعتراف المؤسسة الأدبية. في مرحلة لاحقة تتسم بالمفارقة اتجه الأدب القصصي في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرون نحو التحرر من القوانين الخارجية التي تتحكم بالسرد وتحدد واقعيته من خلال فكرة التطابق بين قوانين العالم الروائي من جهة وبين قوانين الواقع من جهة أخرى. نزع هذا الأدب الجديد نحو مفهوم واسع من الواقعية يقوم على إضاءة الواقع وقراءته بأدوات متحررة، وليس على إعادة نسخ صوره وفق أدوات المعاينة الموضوعية. لكن هذا التحول لم يحصل على مستوى التجريب اللغوي. لقد حافظت اللغة على بنيتها وعلى تماسكها وعلى قواعدها، لكن هذه اللغة حورت الواقع وغيرته وأحدثته ثورة في طريقة النظر إليه. كان السحري والفانتازي مصطلحين سائدين في وصف هذا الاتجاه الذي تطور تحديداً على أيدي كتاب أتوا من مناطق ثقافية خارج المنظومة الأدبية الأوربية التقليدية، كتاب من أمثال غابرييل غارسيا ماركيز أتوا من الهامش ليحدثوا انعطافة جذرية في ثقافة المتن الذي كان مستلباً إلى مفاهيم الواقعية التقليدية. وفي هذا السياق، فإن تياراً أو حساسية روائية مثل “الواقعية السحرية” لا يمكن فهمه كمجرد تطور نتج عن خصوصية محلية فقط، بل هو في عمقه ضرورة ثقافية كونية كانت المخيلة بأمس الحاجة لها. كانت هذه بالطبع نقطة بداية تحولت في يومنا هذا إلى كلاسيكية الرواد الأوائل. لكن التحرر من السلطة الخارجية لقوانين الواقع أصبحت اليوم حساسية سائدة في الإبداع الروائي على المستوى الكوني. ولعل ما يثير الدهشة وما يؤكد هشاشة مفهوم الواقعية في الأدب الروائي هو ذلك التنوع الكبير في الإنتاج الروائي اليوم. إن العديد من الروايات المعاصرة التي حققت نجاحات كبيرة كانت ستصنف قبل نصف قرن أو أكثر كأعمال شعبية لا ترقى إلى الأدب النخبوي، وذلك فقط لأنها تغاير أعراف المؤسسة الأدبية السائدة. •عن مجلة مراجعات الكتب الجديدة الأمريكية. |
|