تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


رجلُ الجدار الأزرق

الملحق الثقافي
21/4/2009
قصة: هدى فرحان اشتي

لم أره اليوم عند الجدار الأزرق ، أتراه قد سرق قبلي تلك الساعة من هذا الصباح التي كنت أرغب بسرقتها بعد ليلة أقلقتني بها أحلام يقظة تراكمت بين جفني و أبعدت ملاك النوم عنهما ؟

تابعت السير نحو الشركة التي أعمل بها ، ولكن بخطوات أقصر و بتمهل شديد و عيناي ترمقان امتداد الشارع المقابل أتخيله ماراً به ، لكنه لم يفعل ..‏

لم أقلق ، فقد خلقتُ له ألف عذر و سامحته فوراً رغم الغصة لتأجيل لهفتي يوماً كاملاً ..‏

منذ أول الشهر لم يتخلف مطلقاً عن الجدار الأزرق ، كان يقف هناك و كأنه ينتظرني ، تحيته بعينيه وانحناءة رأسه كانتا تصلان إلى أعماق روحي ، أبتسم ، أبادله النظرة و أتابع يومي بفرح تحسدني عليه رنا زميلتي المقربة في المكتب : “ والله يا ملعونة إنك عم تحبي .. “‏

أضحك و أجيبها: “ ولك يا ريت بس أنا هيك وجهي بشوش “‏

الهمس الذي دار بين أمي و خالتي بالأمس ساهم إلى حدٍ كبير في نومي المبكر تلك الليلة :‏

- “ بكرة بتكمّل التلاثين سنة”‏

- “ أيه .. الله يبعثلها ابن الحلال “‏

- “ من تمك لباب السما “‏

لم يضايقني الكلام ، فقد سمعته كثيراً من قبل ، أعرف أن أحلامي أبعد من مجرد عريس يطرق الباب مع أمه .. ثم يحدد يوم الخميس لأكون له و في بيته” .‏

رجل الجدار الأزرق أضاء فسحة جديدة في صباحاتي ، مساحة لم تكن هناك ، مساحة إضافية كأنها جاءت من خارج الزمن الذي يسارع بي إلى الثلاثين .. رغم أني لا أعرف عنه شيئاً لكن بسمته و عيناه كانتا تصرخان في وجهي أنه ذلك الحلم المتكرر منذ سنتين أو أكثر .. حلم على موعد مع وسادتي ، التي لم أدع أمي تبدلها لي كلما بدلت وسادات أخوتي .. أحببتها و أحسست التصاقها بحلمي ..‏

نعم لا شك أنه هو .. رأيته يخرج من الوسادة ، يسابقني إلى حلمي .. يتكلم و يضحك ثم يقف ممسكاً بيدي و نركض معاً فوق مرج أخضر لا متناهٍ .. أسمعه يردد :‏

- بحبك .. و بغار من الظل فوق عيونك ..‏

يمد يده ليلمس وجهي .. استيقظ و يتلاشى كل شيء .‏

قررت اليوم أن أسأل .. أن أعرف أكثر .. فكل الأشياء حولي .. أمي ، أختي ، المرآة ، التلفاز ، هاتفي النقال ، الحوارات الهامسة .. أصبحت متاهاتٌ لا ترحم ، تطعن روحي عند كل منعطف .‏

وحده الرجل أمام الجدار الأزرق كان نافذتي إلى زرقة السماء للخروج من كل هذه المتاهات.‏

أحس أن ساعات الصباح أطول من أي ساعة أخرى هذا اليوم .. على غير عادتي ، وضعت ظلاً أزرق خفيفاً فوق جفني ، ومسحت شفتي بحمرة وردية شفافه ، لبست فستاني الأبيض المرقوش بالنقاط الحمراء ذو الياقة البيضاء المطرزة بالياسمين وعلى صدري وردة كبيرة من الحرير الأبيض اللامع .‏

كان الجدار هناك وحيداً ، بدت زرقته باهته كئيبة ، قطعتُ الرصيف باتجاهه مباشرة ، كنت أتمنى أن لا أصل إليه قبل أن يخرج حلمي من رأسي ، أو أن يتجسد أمامي ، صوت سيارة مقبلة جعلتني ألتفت بسرعة إلى الشارع ، ركضت قليلاً و قفزت بخفة محاولة تفادي السيارة التي مرت كالبرق .‏

كانت زرقة الجدار تملأ مخيلتي ..أجفلتني اليدان اللتان أمسكتا بي كي لا أقع أمام السيارة .. برز وجهه أمامي مباشرة ، يداه تشدان على كتفي .. و نظرات عينيه تخترقان روحي ، أحسست أني سأنهار ، أسمع صوته كالأثير، و صوت ارتطامٍ مازال يضج في رأسي .‏

عندما استفقت .. كان الناس حولي و ماء يغرق وجهي و فستاني ، كنت ممددة على الرصيف..‏

بدأ الجمع يتفرق من حولي و ما أزال أسمع صوته في أذني ..أدركت أني ما زلت في نفس المكان الذي وصلت إليه أمام الجدار الأزرق .‏

اختلطت الصور في مخيلتي ، تداخلت الألوان ، وجهه و يداه تمسكان بكتفي ، والجدار الأزرق خلفه ، ثم تراكمت الوجوه وصوت همهماتٍ مكبوتة ، شاهدت وجه أمي تبكي و تشد بشعرها و حولها نساء بلباس أسود .‏

وقفت، بدأت أتفقد فستاني ، الوردة لم تكن هناك .. و ليست على الأرض في كل المكان ..‏

حتى الجدار الأزرق لم يكن هناك أيضاً ، استدرت ، هممت بالذهاب ، اخترقت أذنيّ كلمات جعلتني أجمد في مكاني :‏

- وردتك يا آنسة .‏

كان يقف خلفي تماماً و قد عاد الجدار الأزرق إلى مكانه ، يحمل وردتي الحريرية في يده ، أجبت و أنا أتماهى مع سديم بدأ يتكاثف حولي:‏

- أنت ! أين كنت ؟‏

ضحك وقال :‏

- أنا هنا دائماً أمام هذا الجدار .‏

- يعني أنت حقيقة ، من لحم و دم ؟‏

ضحك مرة أخرى :‏

- أكيد من لحم و دم .‏

ثم رفع يده و أخذ يدق على الجدار الأزرق خلفه ليؤكد لي أنه كذلك .‏

اقتربت منه أكثر ، مد يده ، وضعت يدي بيده ، سرت حرارة في كل خلية من جسدي ، شدني إليه و غمرني ، ثم لفني و مشى بي مخترقين ذلك الجدار الأزرق ..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية