|
الملحق الثقافي
تابعت السير نحو الشركة التي أعمل بها ، ولكن بخطوات أقصر و بتمهل شديد و عيناي ترمقان امتداد الشارع المقابل أتخيله ماراً به ، لكنه لم يفعل .. لم أقلق ، فقد خلقتُ له ألف عذر و سامحته فوراً رغم الغصة لتأجيل لهفتي يوماً كاملاً .. منذ أول الشهر لم يتخلف مطلقاً عن الجدار الأزرق ، كان يقف هناك و كأنه ينتظرني ، تحيته بعينيه وانحناءة رأسه كانتا تصلان إلى أعماق روحي ، أبتسم ، أبادله النظرة و أتابع يومي بفرح تحسدني عليه رنا زميلتي المقربة في المكتب : “ والله يا ملعونة إنك عم تحبي .. “ أضحك و أجيبها: “ ولك يا ريت بس أنا هيك وجهي بشوش “ الهمس الذي دار بين أمي و خالتي بالأمس ساهم إلى حدٍ كبير في نومي المبكر تلك الليلة : - “ بكرة بتكمّل التلاثين سنة” - “ أيه .. الله يبعثلها ابن الحلال “ - “ من تمك لباب السما “ لم يضايقني الكلام ، فقد سمعته كثيراً من قبل ، أعرف أن أحلامي أبعد من مجرد عريس يطرق الباب مع أمه .. ثم يحدد يوم الخميس لأكون له و في بيته” . رجل الجدار الأزرق أضاء فسحة جديدة في صباحاتي ، مساحة لم تكن هناك ، مساحة إضافية كأنها جاءت من خارج الزمن الذي يسارع بي إلى الثلاثين .. رغم أني لا أعرف عنه شيئاً لكن بسمته و عيناه كانتا تصرخان في وجهي أنه ذلك الحلم المتكرر منذ سنتين أو أكثر .. حلم على موعد مع وسادتي ، التي لم أدع أمي تبدلها لي كلما بدلت وسادات أخوتي .. أحببتها و أحسست التصاقها بحلمي .. نعم لا شك أنه هو .. رأيته يخرج من الوسادة ، يسابقني إلى حلمي .. يتكلم و يضحك ثم يقف ممسكاً بيدي و نركض معاً فوق مرج أخضر لا متناهٍ .. أسمعه يردد : - بحبك .. و بغار من الظل فوق عيونك .. يمد يده ليلمس وجهي .. استيقظ و يتلاشى كل شيء . قررت اليوم أن أسأل .. أن أعرف أكثر .. فكل الأشياء حولي .. أمي ، أختي ، المرآة ، التلفاز ، هاتفي النقال ، الحوارات الهامسة .. أصبحت متاهاتٌ لا ترحم ، تطعن روحي عند كل منعطف . وحده الرجل أمام الجدار الأزرق كان نافذتي إلى زرقة السماء للخروج من كل هذه المتاهات. أحس أن ساعات الصباح أطول من أي ساعة أخرى هذا اليوم .. على غير عادتي ، وضعت ظلاً أزرق خفيفاً فوق جفني ، ومسحت شفتي بحمرة وردية شفافه ، لبست فستاني الأبيض المرقوش بالنقاط الحمراء ذو الياقة البيضاء المطرزة بالياسمين وعلى صدري وردة كبيرة من الحرير الأبيض اللامع . كان الجدار هناك وحيداً ، بدت زرقته باهته كئيبة ، قطعتُ الرصيف باتجاهه مباشرة ، كنت أتمنى أن لا أصل إليه قبل أن يخرج حلمي من رأسي ، أو أن يتجسد أمامي ، صوت سيارة مقبلة جعلتني ألتفت بسرعة إلى الشارع ، ركضت قليلاً و قفزت بخفة محاولة تفادي السيارة التي مرت كالبرق . كانت زرقة الجدار تملأ مخيلتي ..أجفلتني اليدان اللتان أمسكتا بي كي لا أقع أمام السيارة .. برز وجهه أمامي مباشرة ، يداه تشدان على كتفي .. و نظرات عينيه تخترقان روحي ، أحسست أني سأنهار ، أسمع صوته كالأثير، و صوت ارتطامٍ مازال يضج في رأسي . عندما استفقت .. كان الناس حولي و ماء يغرق وجهي و فستاني ، كنت ممددة على الرصيف.. بدأ الجمع يتفرق من حولي و ما أزال أسمع صوته في أذني ..أدركت أني ما زلت في نفس المكان الذي وصلت إليه أمام الجدار الأزرق . اختلطت الصور في مخيلتي ، تداخلت الألوان ، وجهه و يداه تمسكان بكتفي ، والجدار الأزرق خلفه ، ثم تراكمت الوجوه وصوت همهماتٍ مكبوتة ، شاهدت وجه أمي تبكي و تشد بشعرها و حولها نساء بلباس أسود . وقفت، بدأت أتفقد فستاني ، الوردة لم تكن هناك .. و ليست على الأرض في كل المكان .. حتى الجدار الأزرق لم يكن هناك أيضاً ، استدرت ، هممت بالذهاب ، اخترقت أذنيّ كلمات جعلتني أجمد في مكاني : - وردتك يا آنسة . كان يقف خلفي تماماً و قد عاد الجدار الأزرق إلى مكانه ، يحمل وردتي الحريرية في يده ، أجبت و أنا أتماهى مع سديم بدأ يتكاثف حولي: - أنت ! أين كنت ؟ ضحك وقال : - أنا هنا دائماً أمام هذا الجدار . - يعني أنت حقيقة ، من لحم و دم ؟ ضحك مرة أخرى : - أكيد من لحم و دم . ثم رفع يده و أخذ يدق على الجدار الأزرق خلفه ليؤكد لي أنه كذلك . اقتربت منه أكثر ، مد يده ، وضعت يدي بيده ، سرت حرارة في كل خلية من جسدي ، شدني إليه و غمرني ، ثم لفني و مشى بي مخترقين ذلك الجدار الأزرق .. |
|