تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


كـتـب فــي مهـبِّ الإعـــــارة...جوازات سفر تعبر حدود الجغرافيا

ثقافة
الخميس 7-5-2009م
سوزان ابراهيم

لا أذكر تماماً متى بدأت صداقتي بالكتاب، لكني مازلت أتذكر بجلاء قصص سلسلة الحديقة الخضراء التي كنت أستعيرها من مكتبة مدرستي الابتدائية في دمّر، كنت في الصف الخامس حينها. في الصف السادس الابتدائي،

لعل ولعي بالكتب لفت انتباه مدرستي السيدة (دونيز لطاش) ذلك الاسم الذي مازال حاضراً بقوة في أرشيف الذاكرة، لعلها سألتني عن وجود مكتبة في بيتنا، وأجبتها بنعم.... ترى هل كان طلبها إلي إحضار كتاب ما من تلك المكتبة المنزلية اختباراً لصدقي؟ ربما.... وأحضرت لها رواية (بائعة الخبز) لـ دي كزافيه، في اليوم التالي أعادت لي الكتاب، وقالت طالما أن أباك يكره إعارة الكتب، فلم أحضرته؟ قلبت الورقة الأولى بناء على طلبها وقرأت بخط أبي: ألا يامستعير الكتب دعني/ فإن إعارتي للكتب عار/ فمحبوبي بذي الدنيا كتابي/ فهل ياصاحبي محبوب يعار؟‏

سوف أبقى بعد ذلك ممن يجيدون الحفاظ على الكتب التي أشتريها، وما زالت كتبي الجامعية المميزة في قسم اللغة الإنكليزية تحتل صدر مكتبتي كتحفة نادرة، رغم عروض مغرية لشرائها من قبل بعض الطلبة اللاحقين نظراً لجمال طباعتها (مطبعة LONGMANفي لبنان) وألوان أغلفتها المختلفة، علماً أنني احتجت أحياناً لتلك الأموال خلال سنوات العطالة أو البطالة التالية للتخرج، وما ذلك إلا ليقيني أن والدي اقتطع ثمنها من قوت العائلة في ذلك الحين، ناهيك عن قيمتها المعنوية فكل صفحة منها تحمل بصمات تعليق أو سؤال بقلم رصاص.‏

قليلة هي الكتب التي فقدتها بسبب الإعارة - ربما اثنان- فأنا أميل غالباً إلى عدم الإعارة، أو أن مالدي من كتب لايثير شهية من حولي، لكنني كنت ألجأ في أوقات الضيق إلى اهداء بعضها في مناسبة ما، وكي لاأفعل بعد ذلك، ردعت نفسي بكتابة تاريخ ومكان شراء الكتاب على صفحته الأولى، وبقلم أزرق يصعب محوه ، والحقيقة أن تلك الطريقة نجحت في ردعي، وإجباري على شراء الكتب - الهدايا.‏

تبدو مسألة إعارة الكتب، وما تحمله من جوانب إيجابية وسلبية، قديمة التداول، وبين مؤيد ومشجع على الإعارة، ومنذر ومهول من نتائج ذلك تنوس قصتنا.‏

قيل لقد تحلى العلماء وطلبة العلم والباحثين بصفة إعارة الكتب، وعدم البخل بما لديهم من جليل وقيم منها، واعتبروه تبادلاً علمياً منفعياً وفي ذلك قيل: إياك وغلول الكتب، أي حبسها عن الأصحاب.‏

قديماً لجأ بعض أصحاب الكتب إلى إعارتها مقابل رهن ما حفظاً لحقهم باسترجاعها :أعر الدفتر للصاحب بالرهن الوثيق / إنه ليس قبيحاً أخذ رهن من صديق.... ونقل عن أبي الحسين الطيوري/ على ذمة الرواة- أنه قال في بغداد: جل قدر الكتاب ياصاح عندي/ فهو أغلى من الجواهر قدراً / لست يوماً معيره من صديق/ لاولامن أخ يحاول غدراً ، لن أعير الكتاب إلا برهن من نفيس الرهون تبراً ودراً.‏

أعتقد أن كثيرين منكم تعرضوا لسرقة غير مباشرة لكتاب أو أكثر حين لم يقم من استعار الكتاب بإعادته، أو أنه تعرض للإهمال فعاد الكتاب إليك بوجه بائس عابس كئيب يتوسلك ألا تعيد الكرة معه، لايمكن لأي عاقل أن ينكر أهمية الكتاب كركيزة أولى في حياتنا، وخاصة كلما أدلهم الخطر المحدق بنا ليس كأفراد مثقفين، بل كأمة يتنبأ كثير من مفكريها بدخولها طور الموات! يعزو كثير منا تقصيره في القراءة إلى مشاغل الحياة اليومية، واللهاث خلف اللقمة المبللة بالكدح، ويعزو عدم شراء الكتب لضيق ذات اليد وغلاء أسعار الكتب، وقد يحدثك أحدهم عن كل تلك الأسباب وهو يلتهم وجبة دسمة في مطعم، أو يثير غيوم دخانه الأجنبي في وجهك، إن لم نقل نرجيلته... أعتقد أننا أصبحنا أكثر استسلاماً للدعة وإغلاق العقل والسلبية في معالجة القضايا العامة- رغم عدم إنكاري لكل الظروف الصعبة التي نمر بها جميعاً مادياً ومعنوياً- لقد أعلنت الأغلبية - ومنهم مثقفون حقيقيون - استقالة أبدية عن ساحة الفعل متخذة شعاراً ذهبياً يقول: ابعد عن الشر وغن له!‏

في ظل كل الظروف الآنفة تغدو إعارة الكتب ضرورة وواجباً، ولمن يريد دافعاً فقهياً في المسألة، قيل إن في ذلك أجراً عبر إباحة منافع ملكك لغيرك بلا عوض! تلعب المكتبات العامة دوراً ريادياً هاماً في هذه المسألة، لكن قد يحتاج بعضها للدعم المستمر برفدها بكل جديد.‏

محاولات عديدة بذلت وتبذل لتشجيع القراءة بين الناس وترسيخها كعادة سلوكية، فكانت المكتبات المتنقلة التي تذهب إلى الأرياف والمناطق البعيدة، وسلسلة كتب الجيب، الحسومات الموسمية على أسعار الكتب، والتي تكون عادة غير ذات قيمة، أو أنها لاتشمل الكتب الهامة والجادة وتظاهرات عيد القراءة ، وتكريس يوم عالمي للاحتفاء بالكتاب...‏

ذات يوم استعرت كتاب أراغون ( مجنون إلزا) من صديق عزيز ثم أعدته شاكرة ممتنة لتلك المتعة التي نعمت بها خلال قراءته، بعد سنوات شعرت بحنين لإعادة قراءاته، فأعدت استعارته من ذلك الصديق، لكنني تأخرت في إعادته واعتذرت منه بشدة، عازية سبب ذلك إلى ذاكرة مثقوبة بت أتمتع بها، ابتسم صديقي قائلاً: أحضري الكتاب لأكتب لك إهداء على صفحته الأولى، وإلى الآن لم أفعل لكنني أعد ومع انتهاء كتابة هذه المقالة أن أحمل الكتاب المستعار ليخط لي إهداء عليه، إذاً ما من داع للأخذ بمقولة الحراني ( هكذا أسموه!) لاتعيرن دفتراً لابوجه ولا سبب / كم كتاب أعرته/ زعموا أنه ذهب/ فإذا طلبته/ أوجب الصد والغضب، فقد يبتسم بوجهك صديق كصديقي ويهديك إياه!.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية