|
ملحق ثقافي
وبدا حينذاك أكثر حياة من أي وقت مضى وكأنه هو بذاته السيد مونتييل كما تعودوا ان يروه اثناء الصلاة في الساعة الثامنة صباح كل يوم أحد!.. لم يقتنع أهل المدينة ان السيد مونتييل لايتقمص دور الميت إلا حينما وضع جثمانه في الصندوق وبعد أن أحكم غطاء الصندوق بتثبيت المسامير وغلق في بهو منزل الاسرة المبهر. غير انه بعد انتهاء مراسم الدفن فإن الأمر الذي صعب على الجميع تصديقه، باستثناء ارملته،هو أن جوزييه مونتييل قد مات ميتة طبيعية. فعلى حين انه طالما تمنى الجميع ان يلقى حفته إثر رصاصة في ظهره تطلق عليه من كمين كانت زوجته على ثقة أنه سيموت في سريره بدون ألم وفي سن متقدمة، بعد أن يؤدي المراسم الدينية. لكن حساباتها تلك لم تتوافق مع الاحداث في بعض التفاصيل، فقد توفي أيضا تأمل ان يسير سكان المدينة كلهم في موكب جنازة زوجها، وأن يمتلأ بهو البيت بأكاليل الزهور التي يرسلها المعزون. بيد أنه لم يحضر تشييع الجنازة سوى أفراد من أعضاء الحزب والجماعة الدينية التي كان ينتمي اليها وكانت باقة الزهور الوحيدة التي تلقوها هي تلك التي أرسلتها سلطات الحكم المحلي،وقد أرسل نجله من مقر عمله لقنصلية بلده في المانيا، وابنتاه من مقر إقامتهما في باريس برقيات من ثلاث صفحات ملأت بعبارات بالتعازي وكانت تلك البرقيات توحي لقارئها أن كاتبيها قد خطوها واقفين في أحد مكاتب البريد مستعملين كميات غزيرة من الحبر المتوافر هناك، بعد أن قام كل منهما بتمزيق عديد من النماذج حتى تمكنوا من صف ما قيمته عشرون دولارا من الكلمات، غير أن أحدا منهم لم يعد بالمجيء !! وفي تلك الليلة، وهي في الثانية والستين من عمرها، وبينما تذرف الدموع على الوسادة التي استراح عليها رأس الرجل الذي منحها السعادة، ذاقت أرملة مونتييل طعم الامتعاض لأول مرة، وأخذت تردد في خاطرها «سأبقى خلف هذه الابواب المقفلة.. سأقدر انهم قد أقفلوا على نفسي الصندوق مع مونتييل.. إني لاأريد معرفة أي شيء آخر عن هذه الحياة». مخلصة كانت تلك المرأة الهشة التي مزقت الخزعبلات أوصالها. كانت قد تزوجت في العشرين من عمرها أرضاء لرغبة والديها من الرجل الوحيد الذي تقدم لخطبتها والذي أذن لها أن تراه من مسافة لاتقل عن عشرين قدما. لم يحدث لها أبدا ان تفاعلت مع الواقع، وها هي بعد مرور ثلاثة ايام منذ ان حملوا جثمان زوجها خارج المنزل، قد بدأت تدرك من خلال دموعها أن عليها ان تتماسك، ورغم انه لم يكن في مقدورها ان تتبين اتجاه مسار حياتها الجديدة، فقدكان عليها ان تبدأ مرة أخرى. وكان أحد الأسرار التي لاتحصى والتي حملها معه جوزييه مونتييل على قبره هو مجموعة الأرقام التوافقية لفتح الخزنة. غير أن العمدة أخذ الأمر على عاتقه وأمر بوضع الخزنة في الفناء مستندة على الحائط حيث قام رجلا شرطة بإطلاق العيارات النارية على القفل. وطيلة ساعات الصباح كانت التقارير المبهمة التي يطلقها العمدة من خلال صيحاته تتوالى على سمع الأرملة في غرفة نومها!.. أخذت الأرملة تناجي نفسها قائلة «إن هذه هي القشة الأخيرة، لقد قضيت خمس سنوات أصلي داعية أن يوضع حد لإطلاق الرصاص، والآن فإن علي أن اعبر عن امتناني لهم لأنهم يطلقون الرصاص في داري». وعليه فإنه في أثناء ذلك اليوم استجمعت الأرملة قواها مستجدية الموت، لكن لا من مجيب.وحينما بدأ النعاس يغالبها أهتز أساس المنزل لصوت دوي انفجار رهيب فرن الرجال لم يجدوا بدا من تفجير الخزانة. تنهذت أرملة مونتييل بأسى، فإن تشرين الأول شهر الأمطار الغزيرة التي لاينقطع هطولها. كانت تشعر بالضياع كمن يهجر دون وجهة في مزارع مونتييل الخرافية التي تسودها الفوضى والتي تولى أمرها« كارمايكل» صديق العائلة القديم المخلص. وكانت أرملة مونتييل قد غادرت غرفة نومها بعد أن تمكنت من مواجهة حقيقة موت زوجها للقيام بمهام المنزل، فقامت بنزع جميع الزينات وغطت الأثاث بأغطية ذات ألوان حزينة، ووضعت شرائط سوداء على صور زوجها المتوفى المعلقة على الجدران وبمرور شهرين على الجنازة كانت الأرملة قد اكتسبت عادة قضم أظفارها. وفي أحد الأيام وبينما كانت عيناها محمرتين ومنتفختين من أثر البكاء، استرعى انتبهاها أن«كارمايكل» قد دخل الى البيت ومظلته مفتوحة، فتوجهت اليه قائلة: -اقفل تلك المظلة ياسيد « كارمايكل» فكأنه لاينقصنا سوى أن تدخل البيت ومظلتك مفتوحة بعد كل تلك المصائب التي حلت بنا. وضع السيد«كارمايكل» مظلته في إحدى الزوايا، كان عجوزا أسود لامع البشرة، يرتدي ثيابا بيضاء وكان قد شق فتحتين في مقدمة حذائه بسكين لإراحة أصابع قدميه المنتفخة من جراء التهابات المفاصل. ثم علق على ماقالته قائلا: -مؤقتا ريثما تجف. وبعدها قامت المرأة لأول مرة منذ ان مات زوجها بفتح النافذة متمتةوهي تقرض أظافرها: -«شتاء كهذا بالإضافة الى كل تلك المصائب..يبدو أن الجو لن يصفوا أبدا» فرد عليها الرجل القائم بأعماله قائلا: -لن يصفو اليوم أوغدا، فإني لم استطع النوم ليلة البارح بسبب التهاب مفاصل اصابع قدمي. كانت الأرملة تثق في تنبؤات أورام أصابع« كارمايكل» عن حالة الجو فأخذت تتأمل ساحة المدينة الصامتة التي لم تفتح أبوابها ليشهد ساكنوها جنازة جوزييه مونتييل، عندما غمرها اليأس من جراء أصابعها، وأراضيها الشاسعة والأعباء اللامتناهية التي أورثها إياها زوجها والتي يستعصي عليها فهمها أو القيام بها فقالت متشنجة بالبكاء: «إن الحياةخطأ؟..» اعتقد الذين زاروا الأرملة في تلك الآونة أنها اصيبت بالجنون رغم أن ذهنها لم يكن في يوم من الأيام أكثر صفاء، فإنها في الماضي كانت اعتادت أن تقضي صباح أيام شهر تشرين الاول الكئيبة قبل بدء المجازر السياسية تنعى من يقتلون حالة الفوضى العبثية التي تسود العالم. ولكنها منذ وفاة زوجها أصبح لديها سبب ملموس قوي للاحتماء بمثل تلك الافكار السوداء. وهكذا فبينما أسلمت أرملة مونتييل نفسها لنوبات يأسها كان «كارمايكل» يحاول إنقاد الحطام. فقد كانت الأحوال قد ساءت، إذ أنه بعد زوال خطر مونتييل الذي كان قد احتكر الاعمال التجارية المحلية بالإرهاب بدأت المدينة في اتخاذ الإجراءات الانتقامية،و عليه فبعد انتظار طويل لمبتاعين لم يأتوا راب الحليب في الأوعية المصفوفة، واصبح الجبن في خزائنه طعاما للديدان، وأضحى جوزييه مونتييل وهو في ضريحه المزين بالمصابيح الكهربائية والتماثيل الرخامية يدفع ثمن ست سنوات من الاغتيالات والقهر. فلم يحدث في تاريخ بلده ان بلغ فرد مبلغ ثرائه في مثل تلك الفترة الوجيزة. فعندما وصل عمدة النظام الديكتاتوري الجديد الى المدينة كان جوزييه مونتييل مؤيدا حذرا لجميع النظم، وكان قد قضى اكثر من نصف سنوات عمره جالسا في ملابسه الداخلية امام طاحونة الأرز التي يمتلكها- كان قد اكتسب مؤخرا صفقة كرجل مؤمن محظوظ حيث انه كان قد نذر نذرا سيوفيه إذا ربح إحدى الجوائز ولم يمض أسبوعان إلا وكان قد ربح الجائزة وأوفى النذر غير أن جوزييه شوهد يرتدي حذاء لأول مرة عند وصول العمدة الجديد الذي كان شرطيا فظا مخادعا قد أتى بأوامر محددة لتصفية المعارضين. بدأ مونتييل طريقه الجديد مخبرا سريا، ومن ثم فإن ذلك التاجر المتواضع الذي لم يكن يثير أي قلق بسب ظرفه الناجم عن بدانته، قسم أعداءه قسمين، أحدهما من الأغنياء والآخر من الفقراء. وقام رجال الشرطة بإطلاق الرصاص على الفقراء في الساحة العامة بينما منح الأغنياء مهلة قدرها أربع وعشرون ساعة لمغادرة المدينة. وقد قام مونتييل بالتخطيط للمذابح مع العمدة على مدى الايام في غرفة المكتب الخانقة القيظ بينما كانت زوجته قابعة تندب الموتى، وكانت كلما غادر العمدة غرفة المكتب تعترض طريق زوجها قائلة: - إن هذا الرجل سفاح، عليك ياجوزييه ان تستخدم نفوذك مع الحكومة لكي يقبضوا على هذا الوحش الذي لن يترك إنسانا حيا في المدينة. غير أن جوزييه الذي تزايدت مشاغله بعد تلك الأيام كان يزيحها من طريقه قائلا دون أن ينظر إليها : «لاتكوني حمقاء».وفي الواقع فإن شاغله الأكبر آنذاك لم يكن قتل الفقراء بل إقصاء الأثرياء. وهكذا فبعد ان يقوم العمدة بثقب أبواب بيوتهم بوابل من العيارات النارية وإعطائهم المهلة المحددة لمغادرة كان جوزييه مونتييل يتولى شراء أراضيهم وماشيتهم بالأسعار التي يحددها هو. وكانت زوجته تعلق على ذلك قائلة: -كفاك غباء فإن مساعدتك لهم كي لايموتوا جوعا في أماكن أخرى لن تؤدي إلا الى إفلاسك..لكنهم لن يشكروك على ذلك. وعندها كان جوزييه الذي لم يكن يتاح له الوقت آنذاك حتى الابتسام يدفعها جانبا قائلا: «اذهبي الى مطبخك وكفاك إزعاجا». وعلى أية حال فلم ينقض العام إلا وكان قد تم تصفية المعارصين وأضحى جوزييه أغنى وأقوى رجل في المدينة. ومن ثم فقد قام بإرسال ابنتيه للإقامة في باريس وحصل لأبنه على منصب ديبلوماسي في ألمانيا،و كرس نفسه لتقوية دعائم امبراطوريته الجديدة. غير أن الحياة لم تمهله سوى ستة أعوام فيما بعد، كي ينعم بثروته الفاضحة! حدث بعد الذكرى الأولى لموت مونتييل أن توالى الى سمع أرملته طقطقة درجات سلم البيت منذرة بتواتر الأنباء السيئة فقد اعتاد احدهم الحضورفي الغسق قائلا: «إن اللصوص عادوا مرة أخرى.. وقد تمكنوا أمس من الفرار بقطيع قدره خمسون عجلا». بيد أن الأرملة كانت توالي الجلوس في مقعدها الهزاز، قارضة أظفارها، تلتهمها الحسرة والامتعاض، بينما تحدث نفسها قائلة« لطالما أخبرتك ياجوزييه مونتييل بأن هذه المدينة جاحدة وها هم الجميع قد تنكروا لك ولجسدك الذي مازال دافئا في قبرك». ولم يعد أحد يطأ البيت بعد ذلك سوى «كارمايكل» الإنسان الوحيد المثابر الذي اعتادت رؤيته بعد تلك الأشهر الطويلة، التي لم ينقطع خلالها هطول الأمطار، لكن«كارمايكل» داوم على دخول البيت دون ان يقفل مظلته. بيد أن الامور بدأت تسوء. كان «كارمايكل» قد قام بإرسال خطابات عدة لأبن جوزييه مونتييل واقترح عليه ان يحضر لتولي زمام الأمور، بل أنه قد سمح لنفسه ان يبدي بعض الملاحظات الشخصية عن سوء حالة الأرملة الصحية. غير أن الردود التي تلقها كانت مراوغة. وأخيرا أجاب الابن بصراحة قائلا إنه لن يجرؤ على المجيء خوفا من أن يغتال بالرصاص، عند ذلك صعد«كارمايكل» على غرفة الأرملة ليعترف لها أنها قد أفلست، وعندها أجابته قائلة: «إن ذلك هو الأفضل، فقد ضقت ذرعا بالجبن والذباب، خذ ما تحتاج إليه إن أردت ودعني أموت في سلام». منذ ذلك الحين اقتصرت صلتها بالحياة على الرسائل التي تكتبها لبناتها عن نهاية كل شهر، وكانت لاتفتأ قائلة: «إن هذه المدينة موبوءة، أبقيا حيث أنتما الى الأبد ولاتقلقا بشأني فإن سعادتي أن أعرف أنكما هانئتان». وكانت الابنتان متناوبتين في الرد على رسائلها فكانت رسائلهما دائما مبهجة حيث كان من الممكن أن يستبين من يقرأ تلك الرسائل انها كتبت في غرفة دافئة جيدة الإضاءة، وإن كلتا الفتاتين كانتا حينما تتوقفان للتفكير أثناء الكتابة تشاهدان صورتيهما منعكستين في عديد من المرايا.ومن جانبهما فقد أفصحتا عن رغبتهما في عدم العودة إذ كانتا ترددان: «إن المدينة ها هنا،أما هناك فالعكس تماما. إن الجو المحيط لايلائمنا، إنه يستحيل علينا العيش في بلد همجي». وكان الارتياح يغمر أرملة مونتييل عند قراءة تلك الرسائل حيث كانت تحظى كل عبارة من تلك بالتأييد منها. وفي إحدى المناسبات كتبت لها احدى الابنتين عن محلات الجزارة في باريس مخبرة إياها أن الحيوانات المذبوحة تعلق كاملة بلونها الزهري في مدخل المحل مزينة بباقات وأكاليل الزهور. وفي ختام الخطاب كان هناك تعليق مكتوب بخط يختلف عن خط الابنة يقول: «تصوري لقد قاموا بتثبيت أجمل وأكبر زهرة قرنفل في مؤخرة أحد الحيوانات». ابتسمت أرملة مونتييل لأول مرة منذ عامين عند قراءة هذا التعليق. وبعدها صعدت الى غرفة نومها دون أن تطفىء أنوار المنزل، وقامت بإدارة المروحة الكهربائية المعلقة على الحائط قبل أن ترقد في السرير. بعد ذلك تناولت بعض المقصات وعلبة من الشرائط الطبية اللاصقة ومسبحة من أحد أدراج المنضدة. ثم قامت بتضميد أظفر سبابتها اليمنى الذي جرحته عضاتها، وبعد ذلك أخذت في التسبيح وعندما أكملت عد حبات المسبحة مرة نقلتها الى يدها الأخرى ليتسنى لها تحسس الحبات دون عائق الضمادة، ولوهلة.. تناهى الى سمعها ذبذبات رعدية بعيدة، ثم غلبها النعاس ورأسها محني على صدرها. بعد ذلك تدلت يدها التي تحمل المسبحة الى جانبها،و عندئذ رأت جدتها جالسة في الفناء، وفي جحرها ملاءة بيضاء ومشط بينما كانت تسحق قملا بين أظفار إبهامها.. سألتها: -متى أموت؟.. رفعت جدتها رأسها مجيبة: -حينما يبدأ الألم في زحف إلى ذراعك». |
|