|
معاً على الطريق لذلك كانت أنطاكية بمثابة المدينة الفاضلة بالنسبة لنا نحن السوريين , والحلم البعيد المنال . وكنا كلما قرأنا عن سلخ اللواء انتابنا الحزن والقهر . كانت حكايات الأجداد الذين عايشوا فترة السلخ والتزوير الذي جرى على يد فرنسا وباقي الدول الاستعمارية المجرمة التي تهيمن على مصائر الشعوب بعد إضعافها تترك ندوبا» في الروح وتثير أسئلة لا جواب لها . ومن هذه الحكايات , كتبت أنا روايتي ( باب الحيرة ) وتحدثت فيها عن اللواء وتخيلت تضاريسها وسيرتها ولم أكن قد زرت اللواء أبدا» ..لكني اعتمدت كثيرا» على الروايات الشفهية من كبار السن وعلى مشاهداتهم ..وحتى صدور الرواية لم أكن قد زرت هذه الأرض السورية المقدسة ..كان قلبي يغصّ دائما» بالغضب من العثمانيين الطغاة الذين ذبحوا الأكراد والأرمن والعلويين على مرّ عصور كثيرة , لدرجة أن بعض ما يجري الآن ليس سوى صورة مصغرة عما فعله العثمانيون سابقا» بالشعب السوري والعربي . إن مجازر الأتراك القديمة لا تزال ماثلة أمامي ومشانقهم معلقة في ذاكرتي .لذلك حين دعاني اتحاد الكتاب العرب في سوريا للذهاب إلى اسطنبول لم أهتم ولم أتحمس لهذه الزيارة ولم ألب الدعوة ..مع أن رياح الشمال التي تهب على لواء اسكندرون تهب على قريتي.. فيصل نداء أهلنا ( اللوائيين ) إلى مسامعي . لكن , وبعد تحسين العلاقات مع الجوار التركي ..وبعد سعي وسائل الإعلام السورية والعربية لتظهير الصورة وتنقيتها من الدم العربي ..بدأنا نتقبل أن يكون هذا العثماني جارا» ودودا» على اعتبار أن الماضي لا يعود ونحن أبناء اليوم ولسنا أبناء الماضي ..ولذلك صار الذهاب والإياب إلى تركيا وكأنه ذهاب إلى بيروت . صار لدينا مكاتب سفر وسياحة يومية إلى تركيا ..وصارت البضاعة التركية تغزو الأسواق والعقول ..ولكن لم نكن نتحدث مرة مع أهلنا في أنطاكية, إلا وكانوا يقولون : لا تثقوا بهذا العثماني الجديد ..لم ننتبه إلى تحذيراتهم ..قلنا :الزمن تغير ..وقالوا: هذا الرجل غدار وكذاب وحاقد ..أنتم لا تعرفون سوى ظاهره الملون , بينما باطنه أسود ..ومع ذلك عندما جاء مؤتمر – دافوس – وترك الجلسة مدعيا» أنه ضدّ الصهاينة ..صدقناه وعملنا منه بطلا» لأننا كنا نفتقد البطولة والأبطال . وأذكر أن الصديق الباحث ( بركات قار ) اللوائي التركي.. قال كلاما» من هذا النوع ونحن في أحد المؤتمرات .. وحدثنا الأهل في أنطاكية عن الظلم والاضطهاد الذي يعانونه.. وعن التمييز الطائفي والعرقي والإهمال.. وإن ما يقوم به هذا السفاح من تحسينات ليست سوى (بروبغندا ) دعائية كي يدخل الاتحاد الأوروبي. لقد عانى السوريون في اللواء من القهر ومن حرمانهم لغتهم ..كانوا يتهامسون بالعربية سرا»..وكانت الجندرمة التركية ترصدهم وتتنصت خلف الأبواب على أحاديثهم ..ولم يكن يجرؤ اللوائي أن يسمع راديو بلده سورية ..ولا أن يعطي لأبنائه الأسماء السورية ..لقد غير بعضهم كنيته ولقبه وتسمى بأسماء تركية خوفا» من البطش والذبح.. فهم لا يسجنون الفرد فقط بل يسجنون لغته وأفكاره ومعتقداته أيضا».. كنت أحزن عندما أقابل شبانا» سوريين يتحدثون فقط بالتركية ولا يعرفون أي مفردة عربية.. مع أنهم يعرفون أن لهم أهلاً وأجداداً وما زال بعضهم على قيد الحياة في سورية.. كنا نضحك بألم عندما تتحدث إلينا جدة لوائية بلهجة سورية عتيقة لا يعرفها جيلنا..لقد شاهدنا رجالا»يبكون على سوريا وهم يذكرون قراهم وأقرباء هم في الوطن .صحيح أن عاداتهم الاجتماعية السورية لا تزال قائمة وما زالوا يعرفون جذورهم ويحاولون استعادة لغتهم الأم بعد أن تحولت أنطاكية إلى قبلة للسوريين وتصافحت اللاذقية مع أنطاكية الجميلة العريقة التي تشبه كثيرا» اللاذقية و حلب في بعض المعالم العمرانية . لوهلة صدقنا أنه يمكن أن نكون جيران العثمانيين , فصرنا نذهب بالهوية ويأتون إلينا بالهوية ..بالمختصر ..صرنا نأمن لهذا الوحش ..ولكن كما يقول المتنبي ( إذا رأيت نيوب الليث ضاحكة ...) لأن الوحش لا يغير طباعه ..لقد زأر الوحش ..وراح يتهدد ويتوعد ..ويريد مناطق عازلة..لقد عاد الوحش إلى سيرته الأولى..وربطة العنق هذه التي يرتديها -ليست سوى ستارا لسيف السلطان سليم ولباقي السفاحين الأتراك الذين ذبحوا الشعوب ونهبوها ..وإذا كانت صفحات التاريخ تطوى بعضها لأسباب معروفة ..فذاكرة الألم لاتطوى ...لقد ذبحوا في عدة أيام عشرات الآلاف من الشعب في الساحل السوري ودفنوهم في حفر جماعية , ومدرج جبلة الأثري خير شاهد على مجازرهم .. إن النسيان عدو الشعوب .. فكيف نسي السوريون ذلك ولجؤوا إلى خيام أردوغان السفاح ؟..وا أسفاه ..بعضنا ضيع بوصلة الذاكرة . |
|