|
إضاءات كما كان الحال مع حازم صالح قبل سنتين، وكما هو الحال اليوم مع يزن الداهوك، وكلاهما تخرج من قسم الدراسات في معهدنا المسرحي. قدّم حازم صالح رسالة تخرجه عن الكاتبة المسرحية البريطانية «كاريل تشيرشل» التي تُعدّ إحدى أهم كتّاب المسرح المعاصرين ممن قدموا أعمالاً مثيرة للجدل، سواءً على مستوى تقنية الكتابة المسرحية أم على المستوى الفكري، بما تناولته من مواضيع تشد انتباه أصحاب الأفق التحرري، ومع ذلك فإن نصوصها التي ترجمت إلى العربية قليلة للغاية، ويفتقد بعضها للدقة في الترجمة، كما أن هذه النصوص المترجمة مجتمعة لا تعبر عن أهمية الكاتبة وتجربتها، بما في ذلك مسرحيتها الأشهر (عربياً): «سبعة أطفال يهود» التي كتبتها بعد عام من العدوان الإسرائيلي على غزة، لتدين من خلال حوار بين أبوين إسرائيليين مجمل تاريخ الكيان الصهيوني. فالشهرة التي نالتها مسرحية «سبعة أطفال يهود» في الأوساط العربية كانت إعلامية - سياسية، ولم تكن مسرحية على الإطلاق، والنص الذي لا يتجاوز السبع صفحات لم يحظ إلا بعرض مسرحي عربي وحيد كان أقرب إلى عروض الهواة، أخرجه طالب فلسطيني يدرس في الجامعة الأميركية في القاهرة. وخارج الاحتفاء العربي الإعلامي (الخجول كالعادة) بعمل يناصر القضايا العربية المحقة، تعرضت «كاريل تشرشل» لحملة شرسة من وسائل الإعلام البريطانية حُشد لها أكاديميون وكتّاب تحت العنوان التقليدي (معاداة السامية)، مع تجاهل حقيقة أن المسرحية وجهت انتقاداتها على خلفية سياسية، وليس على خلفية دينية. و استمرت هذه الحملة إلى وقت قريب، حيث أعادت صحيفة «الغارديان» التذكير بموقف «كاريل تشرشل» من إسرائيل، منتقدة إحجامها عن المشاركة بحملة التضليل التي يخوضها الإعلام البريطاني ضد سورية. يزن الداهوك اتجه نحو كاتب بريطاني آخر عالي الأهمية ليقتبس من أحد نصوصه الثمانين نص عرضه المسرحي الأول الذي قدمه على خشبة المسرح الدائري (مسرح فواز الساجر) في المعهد العالي للفنون المسرحية ضمن فعاليات انطلاقة العام الدراسي الجديد. الكاتب الذي اختاره يزن هو «بيتر تيرسون» المولود عام 1932 والذي سعت نصوصه للموازاة بين المشاكل والتحديات التي يعيشها الفرد والأخطار والأزمات التي تواجه المجتمع البشري، متجهاً أساساً نحو البيئة النفسية والاجتماعية للطبقة العمالية الصناعية البريطانية محاولاً التعبير عن تغيرات ثقافتها وأثر ذلك في سلوكها الاجتماعي. وتمثل مسرحيته «زيغر زاغر» الأنموذج الأهم والأشهر لهذا التوجه, وهي تلتقي مع كثير من مسرحيات «بيتر تيرسون» في نظرتها الكئيبة للحياة مع تضاؤل فرص الخلاص، وهذا ما يبدو جلياً في مسرحية «الخزان الكبير» التي اقتبس منها يزن الداهوك فكرة عرضه، والتي تعرض لحوار حياتي كئيب بين اثنين من العمال في خزان هائل للماء، بالتوازي مع خطر انهيار هذا الخزان وما يستتبع ذلك من أخطار كارثية. اكتفى يزن من نص «تيرسون» بجانب الحوار بين العاملين اللذين صارا عنده عاملين سوريين (ابو زاهر وفداء) حوّل حوارهما المتقن والشيق والثري النص إلى نص سوري لا يظهر فيه أي أثر لأصله البريطاني، وقد ساهم في خلق هذه الحالة العمل المتقن للفريق السينوغرافي: فارس خليف وغيث المرزوقي ورشا زنداقي (خريجي دفعة العام الماضي من قسم التصميم في المعهد) ويزن قرموشة طالب السنة الرابعة فيه، وقبل ذلك الأداء الحيوي القدير لبطلي العرض خالد شباط، طالب السنة الرابعة في المعهد، وفادي حواش، خريج دفعته الأحدث، فكلا الممثلين الشابين نجح ببراعة في المساهمة أولاً في بناء الشخصية أثناء التحضير للعرض، وتالياً في تمثل الشخصية أثناء العرض في حالاتها المتباينة، والتناغم مع شريك العرض خلال تصاعد الحدث – الحوار ليكشفا معاً الواقع الذي يحاول كل منهما على حدة إخفاءه خلف الحلم والتمني، أو للدقة: خلف التوهم المتعمد المكافئ في غايته لدور الكحول الذي احتسياه بشراهة للهروب من واقع حياتي قاسٍ وأحلام منكسرة. ومع ذلك فإن الخارج لم يكن غائباً بالمطلق، وإنما كان حاضراً بقسوة وعمق في حوار بطلي العمل وخاصة حين يفضح اتصال هاتفي لم يتم زيف حديث (ابو زاهر) عن ابنه القاطن في ألمانيا، ليصفعه فداء بحقيقة أن ابنه لم يعد ينتمي إليه، لأن المجتمع الذي استقبله لا يسمح له بمثل هذا الانتماء لا لأجل زاهر، وإنما لأجل ابنه القادم الذي يجب أن يكون منقطع الجذور تماماً مع بلد أبيه وتاريخه وثقافته ولغته. لا يمكن مغادرة عرض (الخزان) دون الإشادة بدور مصمم الإضاءة أوس رستم أحد أميز خريجي قسم التقنيات في المعهد، ومهندس الصوت رامي الضللي والفريق التقني المؤلف من طاهر سلوم ومنتجب عيسى وثلاثتهم من طلاب السنة الرابعة في قسم التقنيات.والمخرج المساعد طارق عبدو خريج قسم التمثيل. يزن الداهوك ينضم إلى خريجين شباب آخرين من المعهد شاهدنا لهم عروضاَ في السنوات الأخيرة على درجة كبيرة من الأهمية، والوعد، مثل مجد فضة وعلاء العالم وسواهما من خريجي أقسام الدراسات والتمثيل والتصميم والتقنيات والرقص..وهو ما يجب أن يدفع بالمؤسسات الوطنية المعنية بالثقافة لأن تمد لهم يد العون والدعم والمساندة، لمنح مواهبهم فرصة التطور والنمو والتعبير عن ذاتها.. وأعتقد أن أهمية مثل هذا الأمر لا تحتاج إلى شرح. |
|