تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


رواية الرسائل «العلاقات الخطيرة» أنموذجاً

ملحق ثقافي
2017/10/24
د. عبد الهادي صالحة

إن روايات الرسائل هي جنس أدبي يتكون السرد فيه من المراسلة الخيالية لشخصية أو لعدة شخصيات. تنظم فصول هذه الروايات بشكل عام بالرسائل المكتوبة بين الشخصيات (كل رسالة منفصلة عن الرسائل الأخرى، وتحمل رقماً وتاريخاً واسم المرسل إليه أو تنظيم لهذه العناصر..

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

ارتبط انتشار هذا الجنس في القرنين السابع والثامن عشر مع الاستعمال المنتشر في العصر لأساليب القصة المعلبة في الرواية والمسرح، أو في داخل قصة – إطار تأخذ مكان قصة أخرى. إن النابض الرئيسي للجنس الرسائلي، الذي يقربه بهذا الشكل من الجنس المسرحي هو تعزيز أثر الواقع من خلال إعطاء القارئ الشعور بالولوج إلى حميمية الشخصيات دون علمهم. إن رواية الرسائل ليست سوى أسلوب من الأساليب المتعددة الذي استخدمه كتاب الروايات للحصول على أثر للواقع، والأسلوب الأكثر رواجاً كان أسلوب «النص الذي عثر عليه»، رواية مختلفة عن القصة المعلبة، الذي استخدمه سيرفانتس ذاته، والذي يعتبر مؤسس الرواية الحديثة، في روايته «دون كيشوت» المعتبرة أنها إعادة لنصوص موجودة، هذا الأسلوب المستخدم بشكل منتظم جداً، ومن بينها «المخطوطة التي عثر عليها في ساراغوس» لجان بوتوكي، و»مغامرات أرتور غوردن بيم» لآلان إدغار بو.‏‏

راجت رواية الرسائل بعد نجاح «رسائل برتغالية» لفيوراغ، وفرضت نفسها تدريجياً في القرن الثامن عشر في نتاج روائي سيطر عليه رسم الأهواء أيضاً بعد «الرسائل الفارسية» و»هيليويز الجديدة». ولقد جددت رواية «العلاقات الخطيرة»، التي تتقاطع فيها صرامة التأليف مع الحرية الشكلية التي تطغى على الرواية في القرن الثامن عشر (ماريفو، بريفو، ديدرو)، هذا الجنس وقلبت البنى التقليدية للسرد. إن لاكلو الذي ينضوي في تقليد رواية الرسائل الرائجة (ريشاردسون «كلاريس»، روسو «هيليويز الجديدة» يستثمر كل مصادر هذا الجنس المحصور حتى الآن، إما في مناجاة نفس صرفة، وإما في تبادل رسائل بسيط بين بطلين رئيسيين.‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

وعرف لاكلو كيف يكتشف كل منابع هذا الجنس التي لم تكن سبرت. في الحقيقة، وسم لاكلو بميسمه تاريخ الرواية مقدماً للقرن الثامن عشر مؤلفاً - قبل الثورة بقليل- كشف فيه انحطاط الأرستقراطية المتآكلة من الداخل بالفراغ وبالفساد؛ وعلى خطا كريبيون، كشف لاكلو قواعد الإغواء التي تحكم عالم الماجنين الصغير، حيث يرينا في «العلاقات الخطيرة» فساد أخلاق عصره. بيد أنه، وإن كان، على غرار موليير، يطرح نفسه كواعظ أخلاقي (يمسرح الرذيلة ليصححها بشكل أفضل)، فإنه في الوقت ذاته كان ضحية فنه: ففالمون ومدام ميرتوي، الإباحيان في «العلاقات الخطيرة» لمعا لدرجة أنهما هددا بقلب المرمى الأخلاقي للمؤلف. إن لاكلو، المتهم بأنه يعطي صورة مغرية للشر، وبأنه ينتج تحت غطاء رواية بحثاً حقيقياً في الانحراف، بقي كاتباً مثيراً للجدل.‏‏

إن «العلاقات الخطيرة» التي تسجل في المنظور البيوغرافي للكاتب هي انعكاس تطور مجتمع؛ حيث، بعد دعارة عهد الوصاية وحكم لويس الخامس عشر، تختبئ الرذيلة تحت مظاهر الفضيلة والإباحية وتأخذ شكل ترف فكري. إن الفساد والانحلال سيبلغان ذروتهما مع الماركيز دوساد (جوستين أو مصائب الفضيلة– 1791) , (جوليت أو فضائل الرذيلة – 1797)..‏‏

بيد أن لاكلو ليس ساد. إنه رجل متزوج وأب صالح لا يشبه في شيء شخصياته الفاضحة والمشينة التي يرفض المجتمع أن يتعرف على نفسه فيها (175 رسالة...). لقد جدد لاكلو العسكري الروائي إشكالية الحب من خلال مقاربة تتعلق أكثر بالاستراتيجية منه بالشعور، لقد ناقض تقليداً أدبياً قدم الحب كشعور عفوي، تلقائي (مدام دولافاييت «أميرة دوكليف») ومثالي (روسو «هيليويز الجديدة»)، وكشف وجهة النظر الإباحية: فالشعور يخلي المكان للحسية، للشهوانية، وإن الحب المقيد في إطار حب الجنسين (الذكر والأنثى) يخضع لتكتيك الإغراء الصرف والبسيط لضحية معينة تجهل قواعد اللعبة. إننا نجد من جديد في هذا المفهوم أسطورة دون جوان، بطل نقي ووثوق يصطدم بعقبات تظهر أمامه من قبل السلطة الظالمة: الانحراف. ونمر بهذا الشكل من الإباحية إلى القسوة، من رغبة الفتنة إلى إرادة استعباد وتهديم تثير صواعق الرقابة.. إن انتقام النساء رهيب.. الماركيزة دوميرتوي التي هجرها الفيكونت دوجيركور، تطلب من عشيقها القديم فالمون أن يفتن الناعمة، الرقيقة، النقية سيسيل فولانج التي ينوي الكونت دوجيركور الزواج منها. وبهذا سيكون محط سخرية باريس. بيد أن فالمون، دون جوان في حالة مطاردة مستمرة، يجري وراء هدف آخر شرير أيضاً: يريد أن يفتن، لأنه يحبها، امرأة مشهورة بفكرها الديني، وحيائها وعفتها، وهي الرئيسة دوتورفيل.. لا شيء يوقف المكائد الشيطانية للماركيزة دوميرتوي والماركيز دو فالمون.‏‏

إن رواية الرسائل هذه التي كتبت بلغة القرن الثامن عشر الرائعة أثارت ولا تزال تثير فضيحة. نشيد حب قطع بشكل قاس حيث يسيطر الشر منتصراً ومدمراً. إن الرسالة عند لاكلو هي عنصر جوهري للاستراتيجية الماجنة: إنها تتيح إقامة ومتابعة علاقة محرمة من المجتمع، وغزو ضحية، وفضح شرفها من خلال نشر سقوطها وانحطاطها. إن الشكل التراسلي عند لاكلو ليس خدعة. إنه يجعلها قابلة للتصديق من خلال تنوع الأساليب. إنها تخضع أيضاً للضرورة الدرامية لأن الحبكة تنتظم حول هذه الرسائل: كلما تعقدت التراسلات، تضيق الحدث. إن الرسالة عنده هي تجاوز لقاعدة المجون، لا كتابة أبداً، لأنها يمكن أن تسبب ضياع ذلك الذي يستسلم بغرور لغواية الكتابة.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

ينتظم مؤلف «العلاقات الخطيرة» في أربعة أجزاء مبني على تناظر دقيق: في الجزء الأول (50 رسالة) يختتم في الانتصار المزدوج للفضيلة؛ في الجزء الثاني (37 رسالة) ينتهي بانتصار الماركيزة دوبريفان؛ في الجزء الثالث (37 رسالة) حيث يبدو إعادة إنتاج حركة الجزء الأول: انتصار ظاهري للفضيلة وتحول الإباحي على طريق الهداية؛ في الجزء الرابع (51) يستخدم النهاية الأخلاقية المزيفة للجزء الثالث ليشير بشكل أفضل إلى الكارثة الثلاثية النهائية: انتقام الماركيزة بدلاً من ضرب جيركور، يدين سيسيل؛ الإغواء الذي عزم عليه فالمون يقتل الرئيسة. الإباحيون، من متواطئين أصبحوا أعداء، يسببون الموت المتبادل (موت جسدي بالنسبة إلى فالمون، موت «في العالم» بالنسبة إلى ميرتوي. منذ الرسائل الأولى، تعرض الحبكة نفسها كتقاطع لخيوط سردية ثلاثة: الماركيزة دو ميرتوي ستعرف الانتقام من جيركور، من خلال إفساد سيسيل وتزويجها؟ الفيكونت دوفالمون سيعرف إغواء الرئيسة، التي تبدو ظاهرياً لا يمكن الوصول إليها؟ تواطؤ فالمون ودوميرتوي (الذي يتجذر في علاقتهما الماضية) سيعرف الصمود أمام تباعد مشاريعهما الإباحية، وأمام انبثاق الأهواء؟!‏‏

لاكلو وجمالية الشر‏‏

لقد أجرى لاكلو قطعاً دقيقاً في مجتمع زمنه. إن مؤلفه هو المجتمع بذاته الذي يرى بعمق ويعاد تشكيله بدقة، وليس رأياً حول هذا المجتمع. نقابل «العلاقات الخطيرة» إلى هذا التعريف الرئيسي للرواية، المسجل في القاموس الشفهي لعصرنا: سيرة ذاتية لكائن أو لعدة كائنات حية خيالية، مسيرة إلى درجة من الممكن اللامحدود. إن رواية «العلاقات الخطيرة» الجديرة بالملاحظة في العديد من وجهات النظر هي ذات إسهام لا يستبدل في تاريخ العلاقات العاطفية، عندما نعتبرها فوق كل شيء كحكاية الحب المستحيل للفيكونت دوفالمون والماركيزة دوميرتوي. إن لاكلو ينظم، بفن عظيم، في كتابه عدة حبكات في الوقت ذاته، لقد قابل لاكلو بطلين رئيسيين متساويين في التفوق الجنسي، وأظهر ما كان يتوجب أن ينجم من تفاعلهما العاطفي المشترك. نرى إباحيان يقومان كتابياً ببوح ملوث للشرف، ومشوه للسمعة (بينما الماركيزة تستخدم دائماً بحذر يد وصيفتها لرسائلها الموجزة الرقيقة، وكان شعارها «لا أكتب أبداً») أراد البعض هنا ملاحظة خدعة أساسية، يقتضيها تقليد هذا الجنس الروائي. ولكن لا يمكن إدراك كتاب لاكلو إلا إذا قبلنا منذ البداية، أن هذه تجربة فكرية تتطلب القوة. كان لاكلو رأساً هندسياً، منتظماً تماماً، وكان يقول بالضبط ما كان يريد قوله. لقد نقل إلى إبداعه الروائي كل المبادئ الاستراتيجية التي رسخت في ذهنه من مهنته كضابط مدفعية يريد أن يطبق في روايته مبادئ عسكرية: منطقة قوية محاصرة يجب أن تسقط. إن كتابه هو رائعة من روائع الرواية المنطقية. إن التفاصيل الصغيرة منظمة في الرواية كما في لعبة الشطرنج.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

في الواقع، لقد أراد لاكلو، بإظهاره شخصيتين تشهد كل واحدة منها للأخرى بأكاذيبها، وصف التفاهم الشيطاني الذي يمكن أن يجمع نفسين كبيرين إباحيين. يوجد بين الاثنين ميثاق ضمني ملزم كل واحد تجاه الآخر بالصدق وبالحذر. إن الإباحي، كالداندي، يعيش باستمرار أمام مرآة مثالية ألا وهي وعي الآخرين. وهو بحاجة دائمة لأمين سر، في الوعي المتواطئ الذي يعكس، ويستجلي حريته: ولكن يجب أن يكون هذا الآخر نداً له، قادراً كما يحب على تقدير كل مغامراته. إن الجرأة الكبيرة هي هنا أن أمين السر هو كائن من الجنس الآخر، كان ومازال محبوباً. إن هذه العلاقة التواطئية ذات الطراز العالي والمتميز هي التي يقيمها لاكلو بين هذين العاشقين الأفلاطونيين بشكل منحرف. ولكن من أجل كائنين أيضاً يتصلبان بممارسة مستمرة للشر، ويميلان للتعقيد العاطفي وحب المجد المفرط. يجب التوقع أن التجاذب العاطفي سيكون من نوع خاص تماماً. لقد أحبا بعضهما البعض، ثم انفصلا ليكرس كل واحد منهما نفسه لمغامرات جديدة، واستبدلا حبهما بصداقة متعاهد عليها. وبهذا الشكل، تنزلق لعنة في علاقاتهما لتمنع الحب؛ لكل واحد منهما، الحب ليس سوى السيطرة التي يستطيع ممارستها على وعي آخر، واللذة الحقيقية تكمن في الغزو أكثر من المتعة الحرة للغرض المغزو. إن لاكلو لم يعبر أبداً عن التناقض الممزق بين حرية اللذة والاستلاب الضروري للحب بشكل أفضل إلا في مأساة الاستحالة هذه. عندما يصف لاكلو على المستوى نفسه الوجه الأنثوي والوجه الذكوري للإباحية، فإنه يتهم بشكل واضح النقاط التي يلتقيان فيها، والنقاط التي تفرق بينهما. إن الماركيزة، مدمرة الأقدار، ثارت ضد شرطها، وزعمت إقامة حقوق مساوية لحقوق الرجل. إنها تجد في الإباحية وسيلة للارتقاء فوق ظرفها. ولكنها ستكون هنا أكثر خطورة من الرجل لأنها تواجه عوائق، وعقبات أكثر يجب التغلب عليها وتجاوزها، وبالتالي يجب بذل طاقة كبيرة أكثر. إن الإباحي ليس له هزيمة سوى تقليد الحب، والإباحية يجب أن تهزم، بالإضافة إلى هذا، تقليد المرأة. إن الماركيزة كونت لنفسها بهذا الشكل علماً ثلاثياً: علم النفاق، وعلم الإيروتيكية (إنها تنوع لذاتها، وتؤكد أمام عشاقها، تفوقها على النساء الأخريات)، وعلم الحبكة الذي يتيح لها التصرف بدهاء مع الرجال دون أن يشكوا في ذلك.‏‏

إن اللغة هي المحرك للدراما في «العلاقات الخطيرة»، وهذا، بعنوان مزدوج: أولاً، كما في كل رواية رسائل، فإنه من خلال استخدام اللغة الجيد تتحدد الشخصيات، ليس فقط في الاستعمال، ولكن في النظرية التي يصنعونها منها؛ ثم لأن الخطاب هو بامتياز سلاح الغواية. إن تبادل الرسائل بين الأبطال الرئيسيين يتيح في الوقت ذاته تغذية وهم الحقيقة، والفارق الفكري، والبوح العاطفي. فمنذ الرسائل الأولى، نلاحظ مستويين: الحدث والقصة المصنوعة من الحدث. إن استخدام مراسلة يلبي ضرورة في نظام الخلق الأدبي. أولاً، يتعلق الأمر في الجزء الأكثر أهمية من الرسائل، بتقارير حقيقية، وتقارير هجوم أو انتصار: بالنسبة إلى الماكر الخبيث، البوح، العلامة، هما أكثر أهمية من الفعل ذاته. ثم يتعلق الأمر بواقع معاش من جديد، من الأحداث المؤولة، والتي تسجل في استمرارية مشروع معين. ولهذا السبب، إن عالم «العلاقات الخطيرة» ليس له أية سماكة ملموسة ولا غامضة؛ يتعلق الأمر على الأصح بلعبة مرايا، كل حدث يعكسه بشكل مختلف الأبطال الرئيسيون المختلفون. وأخيراً، يمكن القول أن الماركيزة دوميرتوي وفالمون يعيشان، من خلال الكتابة، ما هدفوا إليه، أو ما فعلوه، وتزداد لذتهم من جراء ذلك.‏‏

الشعور والبلاغة‏‏

إن النقاشات الفلسفية لها مكان مدهش بما فيه الكفاية في رواية أراد البعض قراءتها كلعبة إباحية.. وحتى العنوان الذي يعطيه لمؤلفه، والذي كان له با لتأكيد أثر تجاري كان يدركه تماماً هو استعارة من المفردات التقية، الورعة. ومن المفيد أن نرى في الأدب التقي للقرن الثامن عشر- والمجهول جداً، والمسبور قليلاً جداً- استخدام التعبير «علاقة خطيرة».. إن ما يدهشنا في هذه الرواية هو الحضور الكلي للغة الورعة من قبل فريق الماجنين. فالمون هو طرطوف جديد يستخدم هذه اللغة للغواية، وللإشارة إلى الحب ذاته ولتبريره. إن لاكلو يتظاهر بتبرير مشروعه ليس فقط في نظر الأخلاق (إظهار الرذيلة للتحريض على الفضيلة)، ولاكلو لا يجهل بلاغة الوعاظ، هذه العلاقة الموجودة بين الشعور التقي والبلاغة - البلاغة تتيح أدرمة هذا الشعور الذي يعطيها نفساً، وانطلاقة وعظمة عند بوسويه، وعند ماسيون - يستخدمه ليجعل خطاب الهوى أكثر فصاحة عند مدام تورفيل أو خطاب الإغواء عند فالمون. إن كل هذه الآثار الخطابية من استفهامات، وتكرارات، يسخرها لاكلو بشكل رائع لخدمة الشكل الرسائلي. بيد أن هناك مجال آخر يبدو أن لاكلو أدرك مصادره، مجال الفن المقدس، ومجال فن النحت، وخصوصاً مجال الرسم، الباروك، في تمجيد الهوى، من خلال الجمع بين الحب المقدس والحب المدنس. إن الرسم في القرن الثامن عشر، الذي وسم كثيراً بميسم الباروك والذي ربما بقي لزمن أطول مخلصاً له أكثر من فن الهندسة المعمارية سرعان ما غزته الكلاسيكية المحدثة، هو مجال أكثر ازدهاراً مما قد يظنه المرء. زد على ذلك أن لاكلو لم يخش من دمج المقدس ذاته إلى روايته. فالشعائر تحتل في هذه الرواية الماجنة مكاناً كبيراً؟ قد يعارض أحدهم قائلاً إن هذا انعكاس بسيط للعصر وللمجتمع الذي تعيش فيه الشخصيات. إن المسألة الأخلاقية تحل كلياً محل المظهر الإنساني للخيانة الزوجية.‏‏

اعترافات متعددة‏‏

إن الاعتراف كلي الحضور يلعب دوراً هاماً في الحبكة الروائية. ونستطيع القول إن مجموع العلاقات الخطيرة ذاته يمكن أن يقرأ كتشابك اعترافات متعددة: غالباً ما تكلمنا في السابق إلى أية درجة أدب الأنا الذي انطلق في الوقت الذي نشرت فيه العلاقات الخطيرة، كان يدين لهذه الممارسة العقيدية. إن اليوميات الحميمية تحافظ على علاقات واضحة مع محاسبة النفس، التي تمهد للاعتراف. إن رواية الرسائل، تستعيد تماماً على نمط خيالي، مظاهر ومصادر رسالة التوجيه التي مورست بقوة في القرنين السابع والثامن عشر: «التائب عن خطاياه» يعترف بأخطائه بالرسائل، والذي يتلقى هذه الاعترافات، بدوره، يمكن أيضاً أن يفعل الأمر ذاته. إن ما هو أكثر إثارة في رواية الرسائل، أنه في وقت ما جميع الشخصيات يمكنهم أن يصبحوا مرشدين. إن الكل الروائي يعمل كمكان باروكي جميل ذي كراسي اعتراف متعددة.‏‏

وأخيراً في هذه البنية، فإن الرواية تبنى حول جدالات العصر الكبيرة. وأولاً وقبل كل شيء، عصر الجانسينية، ونحن نعرف كم كانت معارك الجانسينية نشيطة في القرن الثامن عشر. إن المناخ الذي تعيش فيه الرئيسة هو مناخ الجانسينية: على مستوى أول، يمكن تأويل «العلاقات الخطيرة» كوصف لاكتساحات تلف الهوى الجسدي. ولكن هو أيضا المناخ الروحي ذاته. لقد ماتت الرئيسة أخيراً مطمئنة، ولكن بعد أي عذابات! هناك قوى تعمل دون توقف، وأحياناً تبدو الكائنات أنه لم يعد لديها النجدات الروحية الضرورية لتتمكن حقاً من النضال ضدها. وربما نحس هنا أكثر بتيار عقلاني وروائي موجود في قلب القرنين السابع عشر والثامن عشر.. ولكن لاكلو لم يكتف باستحضار مع هذه الشخصيات مظاهر متنوعة من الجدالات التي تستمر في الحضور في مجتمع القرن الثامن عشر، بل إنه استحضر أيضاً الجدال الجوهري للأنوار، وخصوصاً حول نقطتين هما مبدأ الفلاسفة: الطبيعة والسعادة.‏‏

إن مفهوم «الخطيئة» والإثم وهو من بقايا ذهنية مسيحية، يميل الفلاسفة إلى إلغاؤه. وفيما يخص فكرة السعادة فهي فكرة مركزية في القرن الثامن عشر، هل الحق في السعادة يتفوق على قواعد الأخلاق التقليدية؟ إن «العلاقات الخطيرة» تقدم نقداً واضحاً لتربية العقيدية، والتي ترتكب خطأ مزدوجاً في الوقت ذاته بمعارضة الطبيعة، وبعدم الإعداد للحياة في المجتمع. إن دور المرشدين يساهم في ترك النساء في حالة طفولة حيث كن ضحايا. إن لاكلو، بشكل أكثر عمومية، يتلذذ بالسخرية من بعض الوسائط. إن عائلة فولانج Volanges، ترمز إلى الحماقة، والفكر التقليدي، وتبني كل الأحكام المسبقة. إن حماقة الأم هي في جزء كبير مسؤولة عن المغامرات الحزينة للبنت.‏‏

أيجب تقييد «العلاقات الخطيرة» في هذه الحركة النقدية الكبيرة؟ هل تسم بميسمها، عشية الثورة، مرحلة أخيرة من مراحل هذا الصراع الفلسفي ضد نزعية الظلامية والتعصبات والسلوك «الشائن»؟ ومع ذلك هذا ليس سهلاً. إن نظر لاكلو الروائي تجاه الشخصيات المتحررة من الأحكام المسبقة ليست متساهلة. نرى في «العلاقات الخطيرة» آثار إنكار لاكلو إزاء الطبقة التي قد يمثلها فالمون ومدام ميرتوي. إن المحرر يزعم أنه لم يفعل سوى اختيار وجمع مراسلات كتبت فعلياً من معاصرين، بيد أن الناشر، مع الاحتفاظ بسخرية الكاتب ظاهرة وملموسة، يعترض: «العديد من الشخصيات التي يمسرحها لها أخلاق سيئة جداً، ويستحيل افتراض أنها عاشت في عصرنا، في عصر الفلسفة هذا حيث الأنوار المنتشرة في كل مكان، جعلت، كما يعرف كل واحد منا، كل الرجال شرفاء جداً، وكل النساء متواضعات جداً ومتحفظات جداً».‏‏

إن فساد العالم الذي يمسرحه لاكلو قد يتوجب إذاً تأويله كمحضر فشل: إن الأنوار لم تتمكن من إصلاح وتحويل النظام القديم. ولكي يتمكن تعليم الأنوار من أن يؤتي أكله حقاً، سيتوجب العبور إلى العمل، إلى الفعل، والشروع بثورة حقيقية! وهذا أحد المعاني التي يحملها التزام لاكلو في بداية الثورة الفرنسية: إعطاء فعالية، نجاعة حقيقية لتعليم الأنوار. طالما أن مجتمعاً عاطلاً وعقيماً تماماً يعمل في إناء مغلق، فإن الحس النقدي تجاه الأحكام المسبقة لا يصل إلا إلى انحراف الإباحية، بينما تعظيم الشعور والهوى لا يؤدي إلا إلى كوارث.. إن «العلاقات الخطيرة» تتضمن أيضاً نقدا لكل هذا المقلب الحساس والفاضل لعصر الأنوار. إلى أين تقود انطلاقات هذا التمجيد الأخلاقي عند مدام دوتورفيل، إن لم يكن للموت؟ وفيما يخص الحساسية المتباهى بها كثيراً، فإن لاكلو يظهر أضرارها: «هذه الحساسية النشيطة جداً هي دون شك، ميزة محمودة، جديرة بالثناء؛ ولكن ما نراه كل يوم يعلمنا على أن نخشاها» تكتب الحذرة مدام دوفولانج، وأكثر وقاحة، مدام دوميرتوي: «ارتعدوا بشكل خاص من أجل هؤلاء النساء النشيطات جداً في عطالتهن، اللواتي أسميتموهن حساسات، واللواتي يستولي عليهن الحب بسهولة كبيرة وبهذا المقدار من القوة».‏‏

إن فالمون مارس جاذبية حية وقوية على الرومانسي بايرون، لأنه ألهم اللعوبين في القرن العشرين، ومن بينهم روجيه فايان وفاديم Vadim، أو أكثر قرباً منا فيليب سوليرز. إن الميل إلى اللعب والمخاطرة، ورفض الأخلاق، وذكاء القلب الإنساني هي المزايا الجوهرية لهذا النمط من الشخصيات الذي ليس لحياته أي نكهة إثارة إلا على حساب الانحراف.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية