تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


نــــــــــاجي العــــلــــي فنان البصيرة المنفتحة على الحس الإنساني الرهيف

ملحق ثقافي
13/12/2005م
فتحي صالح

( لقد قدمته للقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة، في البداية قدمته كطفل فلسطيني،

لكنه مع تطور وعيه، أصبح له أفق قومي، ثم أفق كوني وإنساني - من أقوال ناجي العلي - )‏‏‏‏

‏‏‏‏

تلك الخربشات التي رسمتها كفه الصغيرة على جدار الخيمة التي كان يسكنها وأهله في مخيم (عين الحلوة ) كانت تؤسس لظهور شخصية فنية عبقرية تترك بصمتها إلى الأبد.... ولد ناجي العلي عام 1936 بقرية الشجرة / فلسطين، وعاش حياة النكبة في المخيمات الفلسطينية في لبنان، عمل في الزراعة مع عائلته الفقيرة، ولم يتم دراسته ثم التحق بمدرسة مهنية في طرابلس وحصل على الدبلوم في الميكانيك.... استطاع أن يدخل أكاديمية الفنون في بيروت ولم يكمل، عمل مدرساً لمادة الفنون في الكلية الجعفرية في صور مدة ثلاث سنوات، انتقل إلى الكويت عام 1963 حيث مارس فن الكاريكاتير وعمل في مجلة ( الطليعة الكويتية )، ثم عاد إلى لبنان ليعمل في جريدة ( السفير اللبنانية ). أخذت رسومه طابعاً جديداً اتسم بالتهديد والإنذار بغية التصدي للتخاذل ولسلسلة التنازلات السياسية في الساحة الفلسطينية. وامتد تأثير رسومه على المواطن في المخيم الفلسطيني،‏‏‏‏

‏‏‏‏

ومن ثم أدى انتشارها في الصحف العربية إلى امتداد ذلك التأثير على مستوى المواطن العربي، الأمر الذي أدى إلى انتباه القوى المضادة للثورة إلى ناجي العلي، فتعرض إلى الضغوط البوليسية التي استهدفت تحويله عن قناعاته وترويضه وتوظيفه.... ذلك الأسمر النحيل سليل العائلة الفقيرة المهجرة من قرية الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة في فلسطين إلى جنوب لبنان لم يرضخ لكل الضغوط والمضايقات وظلت مبادئه ومواقفه الوطنية صلبة وثابتة، وقد فضل العودة إلى الكويت عام 1985 بعد أن شهد حصار بيروت عام 1982، ليحصل على هامش من الحرية، فعمل في صحيفة ( السياسة الكويتية )... ثم غادر إلى لندن للعمل في صحيفة ( القبس ). صدرت رسوماته في كتاب صدر عن المركز العربي للمعلومات، وهو واحد من ثلاثة كتب صدرت عن أعمــاله في لبنــان والكويـت، حاز على جوائز عربية ودولية،انتخب أميناً عاما ًلاتحاد رسامي الكاريكاتير العرب، وهو عضو مؤسس في الاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين، و عضو في الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، له ثلاثة أعمال استخدم فيها المرآة الأولى كتب عليها " مطلوب حياً أو ميتاً"، والثانية رسم عليها قضباناً لمعتقل،‏‏‏‏

‏‏‏‏

والثالثة رسم عليها شريطاً أسود يدل على الشهادة، وفي هذه الأعمال يصبح المشاهد عنوة موضوع العمل، فيرى نفسه مرة مطلوب حياً أو ميتاً،ويرى نفسه ثانية معتقلاً وراء القضبان، و يرى نفسه ثالثة شهيداً. علماً بأنه كانت لناجي العلي محاولة لم تكتمل استخدم فيها مادة الزفت للرسم... بتاريخ ( 22/7/1987 )، في لندن، تعرض لحادثة اغتيال جبانة وفارق الحياة في ( 29/8/1987 ). فن ناجي العلي استطاع الفنان ناجي العلي أن تكون لرسومه الصدارة لأنها بيانات سياسية يومية تواكب الهم الوطني والقومي بحرفية عالية وعبقرية متفردة... وهي ممتدة لأنها رسوم استقرائية متراصة البنيان في كل نواحيها الفنية والأدبية والتعبيرية تجمع بين اللوحة التشكيلية الغرافيكية، والإعلان السياسي، وفن الكاريكاتير، بصورة استثنائية تدعو إلى الإدهاش، تقترب من القلب والوجدان بكل تفاصيلها، لأنها نابعة من ذلك العمق الإنساني. والجميل الذي يرتكز إلى قاعدة معيارية أو يقاس بها، لا يسمو إلى ذلك الإنساني النابع من التفاصيل غير المدركة في الحس الإنساني الرهيف. والبصيرة المنفتحة على هذا الحس لدى الفنان ناجي العلي جعلته يدرك الجمالي بكل أبعاده الفكرية والتشكيلية، لذلك فإن القوى الفعلية التي تواكب الآلية الحركية في مساحة اللوحة تنبثق من الجوهر الحقيقي للفن، وهي تؤدي في نهاية المطاف إلى ذلك الحضور النوعي لأنها قوى إبداعية نشطة واعية ومثقفة لدرجة التنبؤ السليم. - الإرادة القوية والملامح ذات الدلالة الواسعة للتكوينات السهلة، والبساطة العصية تتداخل لتشكل البنية الهيكلية لتلك الخطوط في حركات انسيابية مستعيناً بطاقة نادرة ذات خصوصية انفرد بها وسمت أعماله، لتجعل الناظر يهيم بسحرها دون أن يفكر بالناظم الحقيقي لتلك الخطوط.. هذا الناظم الذي يعتمد بالدرجة الأولى الحس المرهف بعفوية فطرية تتشكل بإلهام حدسي يقود إلى الجمالي بدرجته الشفيفة فيخرج من حدود المنطق الدلالي إلى فلسفة الجمالي برؤية خاصة تزاحمت في حسه الوجداني وخرجت بهذه الصيغة وقد خرقت المألوف لترسم بصمتها التي أصبحت أكثر ألفة وأقرب إلى القلب. - الحركة في أعماله حيوية، تتواءم في إيقاعية مدروسة مع الخط الناظم الأساس لتلك الحركة، فعليه تبنى، ومنه تنبثق، وهو في معظم الأحيان خط منغلق متواصل يحصر مساحات محسوبة بدقة متناهية، تبنى عليها الحركة لتنطلق بليونة معتدلة لا مبالغة فيها، وهي حكائية تستثير المشاعر وتعانق الضمير، قريبة جداً إلى روح ووجدان المتلقي بمختلف ثقافاته، ومن هذا المنطلق الذي يتمازج فيه الحس العفوي والمنطق المدروس، تتسامى القدرة الإبداعية لإمكانية الوصول إلى الهدف المنشود، وهناك حركة داخلية تنبع من صميم الفكرة المطروحة، تدور في مساحة لا متناهية، وتنبض بمشاعر متبدلة تحكمها ضوابط إنسانية فريدة. وبين الأسود المطلوس، والأبيض الحاكم والمسيطر، وبعض الرمادي الخاص بطريقة التهشير حين تكون الرؤية البصرية ضرورة ليتزن الإيقاع ويضـفي على الحركة الداخلية الجلال المهيب، ويصبح نبض اللوحة أكثر إثارة، وأكثر تحريكاً للمشاعر. - في معظم رسوماته يعتمد التكوينات الحرة، يخلقها متماشية مع الفكرة المطروحة، وهي تتآلف مع الخط في وحدات إيقاعية يضبطها الأبيض والأسود، والبساطة التي يتعامل معها في هذه التكوينات تواكب النبض العام، وهي مكون أساسي بدلالة واضحة للعمق المفهومي لمهمة الكاريكاتور التي يصفها بأنها تبشيرية. التكوين لديه رؤية بصرية شفافة، تشكل مع الفراغ المحيط علاقة ذات اتزان جمالي نوعي يتفاعل مع الفكرة المطروحة باطراد سببي، فترتقي اللوحة وتسمو إلى الحد الإبداعي. - الزمان والمكان توأمان يستقطب كل منهما الآخر في رؤية ليست آلية، فذلك المكان الذي يشبه كل مكان ولا يشبهه، قد صوره بإشارات بسيطة موحية، يؤدي مهمته دون الحاجة إلى الوقوف طويلاً لإدراكه، لأنه يدرك بسلاسة وبشكل حدسي، وكذلك الزمان الذي لا يقف عند اللحظة الماثلة، فهو ممتد لما قبلها ومستقرئ لما بعدها و كلاهما ( الزمان و المكان ) يرتبطان بالفكرة التي يستنبطها بسحر استثنائي وغير مسبوق، بقدرة عجيبة يمزجها من أهم الأحداث بطريقة لا تخطر ببال، وبأسلوب أبسط مما يتحدث به أبسط الناس، وفي ذات الوقت بأسلوب أرقى مما يتحدث به أكثر الناس ثقافة. والفكرة دائماً هي فكرة سياسية يمزجها بالاجتماعي... تُضحك في سخريتها ونقدها اللاذع، وتبكي في عمقها وجوهرها... ▪ من المذهل حقاً في أعمال ناجي العلي أنه عمد إلى رسم شخصيات محددة لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، يحركها على سطح اللوحة، فتؤلف ذلك المشهد بقدرة إبداعية خارقة في بساطتها وإيلاجها الحس الإنساني، والتوحد مع المطروح بسلاسة، يبثها فندمن وجودها وكأنها جزء أساسي من تركيبة الهواء الذي نستنشقه. - " لقد قدمته للقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة، في البداية قدمته كطفل فلسطيني، لكنه مع تطور وعيه، أصبح له أفق قومي، ثم أفق كوني وإنساني ". لعل هذا القول لناجي العلي عن حنظلة المولود عام 1969 على صفحات جريدة " السياسة الكويتية " وقد صوره مواجهة، تقدم شهادة تعريف أولى إلى الرؤية القومية والإنسانية الكونية، التي أراد لها أن تكون بصمة خالدة تميز نتاجه الإبداعي. إن عبقرية ناجي العلي تتجلى بشكل واضح في ابتداعه لهذه الشخصية " حنظلة "، التوقيع البديل وبطاقة التعريف، وهي شخصية متأملة للحدث، تدير ظهرها للقارئ في كثير من الأحيان، وتشارك بكل عفويتها وبساطتها، وتعبر عن موقفها من الحدث إذا تطلب الأمر. - الوطني البسيط ذلك الإنسان المفعم بالهموم اليومية، والمراقب للأحداث، تستفزه، فيفرح إذا سمع أو قرأ خبرأًًًً إيجابياً يخدم الاتجاه الوطني، ويتألم ويستنكر ويتظاهر، إذا كان يتعارض مع الاتجاه الوطني و لا يصب في مصلحة الوطن. - فاطمة زوجة ورفيقة الوطني البسيط، تشارك زوجها همومه وتتفاعل معه في أفراحه وأتراحه، وهي فاعلة مثله، تشارك في الأحداث وتقدم ما في وسعها. - الرجعي وهو إنسان متآمر يتصادم باستمرار مع الوطني، سمين، غث، يثير الاشمئزاز، وعندما يرسم الصهيوني يرسمه بذات الهيئة. من الملاحظ أن الشخصيات المهمة السلطوية، الاعتبارية البارزة، لا تظهر في رسوم ناجي العلي، وإنما يشار إليها بالكلام من خلال الأحاديث والنقاش بين الوطني والرجعي. وإن لغة الحوار هي اللغة البسيطة العادية، والحوار يدور على لسان، (فاطمة، الوطني، الرجعي) كشخصيات أساسية، و حنظلة يشارك عند الحاجة. نلاحظ أيضاً أن وجود الكتابة مع الرسم ضرورة للفت الانتباه، واكتمال الصورة الحسية وخلق الفاعلية، لتصبح اللوحة أسلوباً للتحريض. في كثير من رسومه يتكرر رسم الحدث ليخدم الحوار، ويوضح الفكرة المطروحة التي تحتاج لأكثر من مشهد. ونلاحظ أن رسوم ناجي العلي هي مقالات نقدية، أو قصص قصيرة جداً، وهي بيانات سياسية جريئة لحد الموت. مثال : ( حنظلة للصحفي : مقالك اليوم عن الديمقراطية عجبني كثير، شو عم تكتب لبكرة ؟!....الصحفي : عم بكتب وصيتي )...‏‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية