|
ملحق ثقافي
ونحن الآن أمام عملين إبداعيين صدرا في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وهما قصة "أيام معه" للأديبة العربية السورية كوليت خوري وديوان "حبيبتي" للشاعر العربي السوري نزار قباني. من خلال قراءة هذين العملين نجد أن الفكرة التي جسّدتها كوليت بفقرة أو عدة فقرات من كتابها، عبّر عنها نزار بقصيدة أو أبيات من قصيدة، علماً أن القصيدة النزارية لا يمكن تجزئتها، حيث لا يكتمل معنى القصيدة إلا بقراءتها كلها توضيحاً للفكرة. ويمكن أن نلخّص القصة بوجود شابة في مقتبل العمر (ريم) مخطوبة لأحد أقاربها المسافرين (ألفريد) تتعرّف على موسيقي (زياد)، وتنشأ قصة حب بين ريم وزياد، يعود الخطيب من السفر في إجازة فيغار زياد من ألفريد، وتتشابك أحداث القصة من خلال ذلك. إن القصة قصة رائعة وتتسم بتعابير السيدة كوليت الشاعرية والانسيابية . تقول السيدة كوليت على لسان بطلتها ريم "....كان لدموعي وقع غريب على نفسِه لم أكن أنتظره....
في برهة ثانية، انقلب هذا الشخص المادي المستهتر إلى أب. ريم.. ريم ... لا تبكِ... لِمَ هذا اليأس ؟ صغيرة أنتِ .... والمستقبل أمامك... والحياة مليئة بالمباهج... كانت هذه أول مرةٍ يناديني باسمي مجرّداً، ومدّ يده يريد مسح خدودي، لكنه ردّها بصورة لا شعورية وكأنه خشي أن يدنّس طهارة دموعي بأصابعه الخشنة شعرتُ براحة وودت لو أبكي على كتفه " يقول نزار: "سامحته وسألت عن أخباره وبكيت ساعات على كتفيه" تكتب كوليت على لسان بطلها زياد " أنا لست مادياً وواقعياً وعديم الشعور كما تظنين ... أنا إنسان يُقدّر ويشعر لا تعتقدي أن الماديات تهزني ! أتذكرين حين مددتِ يدك لتتلقي رماد سيجارتي ؟ إن هذه الحركة البسيطة هزّت أعماقي... وتساوي في نظري أجمل امرأة في العالم" يردّد نزار قائلاً: "أشعل واحدة من أخرى أشعلها من نور عيوني ورمادك ضعه على كفي نيرانك ليست تؤذيني فأنا كامرأة يرضيني أن ألقي نفسي في مقعد ساعات في هذا المعبد أتأمّّّّّل في الوجه المجهد وأعد أ أعدُّ خطوط اليد" تقول كوليت: " زياد أنتَ ترمي الكلمات ولا تفهم معناها، وأنا أبني من الكلمات قصوراً...أقضي أيام وليالي أبحث في حروف كلماتك... كلماتك البسيطة, عن المعاني المختبئة" يُغرِّد نزار: يسمعني حين يراقصني كلماتٍ ليست كالكلمات يأخذني من تحت ذراعي يرمني في إحدى الغيمات <<< يروي أشياء تدوخني تُنسيني المرقص والخطوات كلمات تقلب تاريخي تجعلني امرأة في لحظات" تكتب كوليت: "قبل أن تشرحي لي شيئاً اسمعي نصيحتي: تعلمي كيف تكونين امرأة ! أنت لست امرأة" ويشدوا نزار: ماذا إذن تتوقعين؟
يا بضعة امرأة أجيبي ما الذي تتوقعين؟ أأظل أصطاد الذباب هنا؟ وأنتِ تدخنين. تفكر بطلة كوليت: "... وشعري الطويل؟ شَعري يضايقني أيضاً... هل أعقصه؟ أم أربطه كذيل الفرس؟ أم أتركه متدلياً على أكتافي؟ لقد مللت من طوله: لماذا أُتعب نفسي في مداراته؟ وتصنيفه. لمن هذه الخصلات التي سأقضي ساعات في جمعها، وعقصها، ونثرها؟ إن زياد يحب شَعري ، ولكن ألم يقل مرة منذ زمن أنه يحب الشعر القصير؟ الشعر القصير لماذا لا أقص شعري؟ وتقص البطلة شعرها" وينظم نزار: صغيرتي. إن عاتبوك يوماً كيف قصصتِ شعركِ الحريرا وكيف حطّّّمتِ إناء طيبٍ من بعد ما ربيته شهورا وكان مثل الصيف في بلادي يوزّع الظلال و العبيرا قولي لهم " أنا قصصتُ شعري لأنّ من أحبه يحبه قصيرا" إلا أن بطلة القصة تفاجأ بأن زياد يغضب لقصها شعرها تكتب كوليت: ...في علبة ليل صغيره، جلسنا في ركن منعزل، تستغيث من فجوات جدرانه أضواء حمر خافته. تأمّّل شعري وقال: الآن تحسّن شعرك وشكلك قليلاً... <<< ارتفعت نظراته تعانق الشفتين الحانيتين، ثم العينين الملحتين. وبين عينيّ وعينه.... عزفت نظراتنا أنغاماً جنونية... وبين الشفاه... عربدت لهفة مسكره... وامتدت يده تشدّ يدي ونطق: سنرقص تسللنا بين الراقصين.. وفى انعكاس الأضواء الخافته على الجدران...كنا خيالاً واحداً... يتوجّع. يتوجّع ... ويذوب مع الأنغام" يردد نزار: "أميرتي إذا معاً رقصنا على الشموع لحننا الأثيرا وحوّل البيان في ثوانٍ وجودنا أشعة ونورا وظنك الجميع في ذراعي فراشة تهم أن تطيرا فواصلي رقصك في هدوءٍ واتخذي من أضلعي سريرا وتمتمي بكل كبرياءٍ يحبني ... يحبني كثيرا" وتنسج كوليت "- قالوا إن زياد يصادق الآن فتاة أخرى، وهم يتساءلون إن كان سيتزوجها... نغل الفضول في قلبي: ومن هذه الفتاة؟ لا أعرفها لقد ذكروا اسمها.. لكنني نسيته... إنها غريبة... تركية على ما أعتقد وتعمل في الشركة... شهقت: إنها المفتشة الجديدة... سوزان. سوزان نعم سوزان... جميلة يا ريم... ومثقفة ... وترغب في الزواج..." وينظم نزار: أخبروني بأن حسناء غيري يا صديقي، لديك حلّت محلي أخبروني بالأمس.. عنك وعنها فلماذا يا سيدي لم تقل لي؟ ألف شكر يا ذابحاً كبريائي أوَ هذا جواب حبي وبذلي؟ <<< يا رخيص الأشواق.. خمس سنينٍ كنت أبني ‘على دخان ورمل كان عطري لديك أجمل عطر كان شَعري عليك شلال ظل <<< لا تلامس يدي بغير شعور عندك الآن من تحل محلي سأُصلي.. لكي تكون سعيداً في هواها، فهل تصلي لأجلي؟ <<< هي في غرفة انتظارك.. فاذهب بين أحضانها ستعرف فضلي يا صديقي شكراً. أنا أتمنى لو وجدت التي تحبك مثلي. وبعد فترة من الجفاء العاطفي بعد حادثة سوزان تتابع كوليت: ".... منذ الساعة الثامنة صباحاً كان زياد عندي. قال ضاحكاً: إن صباحك أجمل صباح في الدنيا... لم أذهب إلى الشركة اليوم كي أقضي يومي كله معك... سخرت في أعماقي من كلماته ! هل يعتبر مجيئه إلي تضحية كبيرة؟ أنا تحت تصرفك... وأنفّذ ما تشائين... لم أقل شيئاً، وماذا أقول لهذا الرجل؟ وهو يعتبر المرأة دمية من عجين ، يؤذيها ، يرميها ، يمحو معالمها ... ثم بقليل من الجهد، يعيدها إلى شكلها الأول ! لا.لا يفهم أن نفسيتي كإناء من الكريستال الرقيق، تكفيه نقرة جافة كي ينصدع إلى الأبد... لا ... إنه لا يفهم أنّ جهود حياته بأكملها لن تعيد الإناء إلى نقائه الأصلي! ويشدوا نزار ذاكراً هذه الحادثة قائلاً: "برغم خلافاتنا برغم اختلاف مناخاتنا <<< برغم الإناء الجميل الذي قلت عنه... انكسر برغم رتابة ساعاتنا برغم الضجر... فلا زلت أومن أن القدر يُصرّ على جمع أجزائنا ويرفض كل اتهاماتنا..." ويأتي ألفريد خطيب البطلة ريم من السفر وتنشغل ريم به، بل تتشاغل به عن لقاء زياد. وتسترسل الكاتبة "....أخابرك... ريم ... ريم... وأقول لك أشياء... وأشياء ... ريم قبل أن أتركك، كلمة واحدة: أنت دائماً معي... طيفك يملأ حياتي... مددت له يدي، فانحنى يقبّل هذه اليد بشغف وعباده، وخرج مسرعاً ًمن السيارة، كي لا أرى دموعه." ويقول نزار في هذه الحادثة: أيها الباكي على ملكه لقد تداعى ملكك الزاهر حسابي القديم صفيته بلحظة. فمن بنا الخاسر؟ كانت لك الجنات مفتوحة ثمارها، وعشبها الناضر واليوم.. لا نار ولا جنة هذا جزاء الكفر يا كافر لو كنت إنساناً معي مرة ما كان هذا الرجل الآخر وهكذا نجد أن خصوصيات الفنان وإنتاجه يعبّران عن حالة نفسية واحدة تنفعل وتتأثّر وتنتج . ونحن لسنا هنا بصدد تأكيد هذه العلاقة بين العملاقين كوليت ونزار أو نفيها. فكل ما نريده هو دراسة هذين الأثرين الفنيين وتتبّع الحادثة مصدر الإلهام . يكتب نزار في مذكراته المنشورة عام 1973 في فصل حبيباتي " لا أريد في هذا الفصل أن أستعرض مواهبي الدنجوانية، و لا أن أجعل منه دليلاً كدليل التلفون، ترون فيه أسماء حبيباتي مرتبةً حسب الحروف الأبجدية. ليس في نيتي أن أرتكب هذه الحماقة. وليس من أهداف هذا الفصل أن يكون مؤتمراً صحفياً أعلن فيه أسماء من أحببتهن، وأعمارهن, وألوان عيونهن. فمنهن من تزوج، ومنهن من أنجبن، ومنهن من لاقى وجه حبيب جديد... ومنهن من ينتظر.... إن امرأة تخرج من حقيبتها ورقة كلينيكس وتمسح جبيني وأنا أسوق سيارتي، تمتلكني... وإن امرأة تتناول رماد سيجارتي براحتها وأنا مستغرق في التدخين... تذبحني من الوريد إلى الوريد. وننظر في ديوان "أشعار خارجة على القانون" الصادر أوائل السبعينات من القرن الماضي في قصيدة بعنوان "من الأرشيف" يكتب نزار مقدمة لهذه القصيدة "مع حبي للأبد" من خطاب لفلانه. "مع أشواقي التي ليست تموت..." تحتها توقيع ريم (اسم بطلة قصة كوليت موضوع الدراسة). إن علاقة أنتجت مثل هذا الإبداع حري أن تُعرف بحذافيرها، وحبذا لو تنشر الرسائل المتبادلة بين كوليت ونزار إن وجدت، فمن المؤكد أن بها الكثير من الجمال الأدبي الذي يحق لنا كقراء أن نتمتع فيه. وإلى أن يتم ذلك لابد لنا من انتظار مذكراتها التي تحدثت عنها في إحدى مقابلاتها التلفزيونية مؤخراً. |
|