|
ثقافة تحت شجرة التوت أرض حمراء وأعشاب كبرت ثم يبست، وبقايا شجيرات دخان، وأحجار كلسية وردية اللون تتفاوت أحجامها، نسميها «أحجار الوخش».. حجر جميل يتخذ شكله تضاريس متعددة.. وترتسم فيه آثار الطبيعة بشكل واضح.. بعض أحجار الوخش بحجم البحصة.. تراه هيكلاً كامل المطابقة مع قواقع المحاريات وكائنات البحر.. الجيولوجيون يقولون: هذا يثبت أنها منطقة رسوبية كانت في العصور الغابرة مغمورة بالبحر. من حجر الوخش ولدت منازلنا.. تشهد على فقرنا، وتراها كأن أحداً لم يبنها بل ولدت حيث هي كما لو أنها شجرة أو نبتة.. توتة أو سنديانة.. ولذلك تتجاور مع الأشجار والنباتات والحشرات والحيوانات الأليفة وحتى المفترسة في عرض بسيط لمكنونات بيئة مدهشة. صغير حجر الوخش بحجم قبضة اليد الذي يستخدم حشوة بين جدران المنازل، نستخدمه أيضاً وسيلة صيد وحماية وقتال.. نضرب به على طائر مسكين أو أفعى أو جرذ أو حردون أو أرنب أو ثعلب، وأحياناً ضبع.. وعندما يحمى وطيس المعركة بين عائلتين أو جارين تتحول إلى سلاح ينقل من طرف إلى آخر أعطر تحيات الغضب، فإن أصابت صبغت الرؤوس بالدماء.. تحت شجرة التوت اصطدمنا أنا وهي، ورحت ضحية معركة لم نردها كلانا.. أنا أسرعت إلى حجر أقذفها إلى التوتة لإسقاط بعض ثمارها على الأرض وهي كانت تختبئ تحتها تلوذ من ذاك الطقس الرطب.. لدغتني.. قلبت الحجر.. رأيتها.. قذفت بالحجر وأسرعت إلى والدي.. الذي أخذ الأمر بسهولة.. ربط لي إصبعي كي لا يسري السم وأرسلني إلى أبي كاسر كي «يرقيها» لي.. أبو كاسر رحمه الله اختصاصي بـ «رقي» لدغة العقرب.. يقرأ عليها فتأتي كالترياق.. ليس التوت كله يثمر.. بعضه ينتج ورقاً عريضاً كثيف الخضرة نستطيب ظله ويستطيب دود القز طعمه.. التوتة شجرة جبارة.. خشبها قوي.. وتنتج من ورقها العريض الكثيف اليخضور كمية كبيرة من الأكسجين لذلك نسعى إلى ظلها.. تتشارك التوتة مع السنديانة.. بقوة الخشب وتحدي الطبيعة برياحها وعواصفها.. وكذلك تستسيغ الحيوانات أوراقهما.. جدلية التوت أنه عبر التاريخ عرف بستر العري وهو يعرى في الشتاء.. أما السنديان فيبدل أوراقه دون أن يعرى.. ولذلك تلتهم الحيوانات ورق التوت بنهم لأن الشتاء سيحرمها منه، وتقتات بأوراق السنديان بحثاً عن أي عرق أخضر يفي بالحاجة. كلا الشجرتين حمالة عنب.. الدوالي كانت تغرس مجاورة لشجرة أخرى قوية تحملها.. سنديانة على الأغلب.. وتوتة أحياناً.. وهذا ماجعلهما محط حب أبي ميهوب.. بالأحرى هو يحب العنب الذي تحملانه.. لكنه يفضل السنديان.. هنا يربون دوالي العنب الأبيض.. ينتج كثيراً.. ويصلح لصنع العرق بجدارة.. وعلى التوت كثيراً ما رأيتهم يربون عنباً أسود... فتتدلى عناقيده من بين الأوراق الخضراء بلوحة مدهشة.. ومن الصعب أن تفرق بين أوراق التوت وأوراق العنب.. توتة ودالية بعنب أسود حكاية عشق وأروع مكان للعشق. عدت من عند أبي كاسر وقد تعالجت.. ربما نفسياً.. وقبل الغروب اقتربت من دالية القرحيلي في فصل حب بينها وبين توتته استمر كل الصيف ولم يشبعا.. سألت أبي: - لماذا توتة القرحيلي لا تثمر..؟ - قال لي ضاحكاً.. إنها تثمر العنب الأسود الجميل.. عندما سألت علا السؤال نفسه لعلاء قال لها: إنها متفرغة لحب الدالية. علاء.. هل تفسر الدنيا كلها باعتبارات الحب..؟ - قدمي تفسيراً آخر.. لا أعرف.. لكنها لا تثمر.. - هي مثلي.. أنا أيضاً لا أثمر.. ولا أشبع ممن أحب.. وأترك له أن يثمر ونحمل الثمار معاً. أنا الدالية..؟! - قد تكونين.. وأنا توتة أشتهي أن أمضي الصيف بفصل حب واحد معك.. فإن جاء الشتاء..؟! - نعرى ونبقى متحابين.. هل تعلم يا علاء.. بل أنت تثمر.. لكنك ولطبعك العجول لا تمر بمرحلة العنب.. تثمر فوراً خمراً يسكرني.. آمن علاء بكلام علا وعندما خاض حواراً مع أبي ميهوب لينصحه بأن يسكر من حب أم ميهوب أجابه: - أنا أسكر كي أحبها..!؟ كتبت علا لعلاء: أيها الحطاب فأسك مرمية بين الرعوش في حاكورة أكلها الطيون وأشجا العليق تملأ «التلازيق» إلى جانب رعوش أحجار الوخش.. دنيا رتيبة تسأل عنك فعد إليها.. عد إلي.. عساه يزهر الطيون.. عسانا نقصد مرة أخرى غابة سنديان أو صنوبر أو كستناء.. نقطف أزهار الأكاسيا ونحادث الحور ونشرح تفاصيل القبار.. حتى إذ تأخذنا الغابة إلى كثيف ظلالها.. توقف دروسك وأصبح أستاذك أعلمك الحب.. عد إلي يا علاء.. في أيام تالية مغرقة في الزمن الآتي سألته: لماذا لم تجب على رسالتي؟ قال: - كنت أبكي.. أيها المبالغ.. سنون وأنت تبكي؟! - عمري نصفان.. نصف أحبك فيه ونصف أبكي غيابك.. أسمع كلامك ويعجبني... أرى أفعالك فاتعجب. - أحبك.. ما نفع الكلام.. - الكلام سيد الحب.. هل تحب امرأة رجلاً لا يعرف كيف يقول لها أحبك..؟! - الكلام يبقى كلاماً.. - وكلامي..؟! يكتب علاء في زمن آخر: كنت حطاباً ورأيتها على تخوم الغابة.. خفت من طول المشوار وظلال الغابة.. كلمتها فابتسمت.. أحسست أن لكلامي معنى.. رحت أنقب في مساحات الشعر والرواية.. وبين تفاصيل البلاد لأستخرج لها كلاماً .. أتراني أضجرتها.. أهداني شاب كتاباً كتب عليه: «الحب هو الحب.. ستيني أو سبعيني.. والمهم بعد الكبرا جبة حمرا؟!» في آخر الرسالة أكتب له.. اسمع ياولدي.. لقد كبرت ومعي كانت تكبر الجبة الحمراء.. لا تخف علي منها.. وإلا فكيف سأحبك. |
|