|
آراء وفي مبنى الهيئة العامة للاذاعة والتلفزيون خطَا خطواته الأولى وعمل في مجالات مختلفة..ولم تمضِ فترة طويلة حتى كان من المذيعين المعروفين في الإذاعة وعلى شاشة التلفزيون. كان سهيل خليل موهوباً على أكثر من صعيد..فهو منذ البدايات يهوى الكتابة ويتطلّع إلى الوسط الإعلامي والثقافي وفيهما حقق مواهبه ككاتب وصحفي وإعلامي فضلاً عن أنه كان رساماً عُلّقت بعض لوحاته على جدران مكاتب في الإذاعة. وفي عمله الإعلامي هذا, نوّعَ خطواته: من مخرج ورسام في الصحافة إلى مذيع ومقدم برامج..وتعاطى في شؤون الكتابة الأدبية أيضاً فأصدر كتاباً سماه (حكايات من قرية سربيون). وخلال عمله عُرف على أكثر من صعيد..وبنى علاقات اجتماعية مميّزة..ونذر نفسه لعمله المنوع ذاك..وحين أنجزت جمعية الصحفيين السكنية, مقسمها في أول شارع الفيلات بالمزة, انتقل إلى هناك ورتّب بيته على مزاجه وتزوّج من إحدى الزميلات التي رافقته حتى رحيله وكانت له (خاصة في سنواته الأخيرة) خير معين وخير رفيق إذ كانت في إيثارها له فوق مايتصوّر الجميع. وفي طبع سهيل خليل نوع من نشدان الهدوء ومحبة الساحل وقريته (سربيون)..فبعد أن عاش في دمشق فترة طويلة: غادرها وهو في عزّ طريقه التي شقّها لنفسه وبمواهبه وحدها. وماتكاد تصدر جريدة الوحدة في اللاذقية حتى انتقل إليها وباشر عمله هناك, فأصبح قريباً من (سربيون) التي صارت مستقرة بعد ترحاله. لم يكن أحد من زملائه راضياً عن تركه دمشق وعمله المتنوّع فيها, إذ غادرها وهو في غمار صعود نجمه: وخلّف وراءه سيلاً من الأصدقاء الذين مااستطاعوا ثَنْيَهُ عن قراره في الانتقال إلى اللاذقية..وصارت دمشق ذكريات له يعود إليها بين الفينة والأخرى فيتنقّل بين أحيائها التي احتضنت تلك الذكريات. يقال إن من يسكن دمشق ويشرب من مائها لايستطيع تركها..وسهيل رغم رحيله إلى الساحل: عاشت بين جوانحه وفي خاطره..إذ ليس من السهل نسيان دمشق, هذه المدينة ذات النكهة الخاصة التي لاتتوفر لمدينة أخرى..وبعد انتقاله إلى اللاذقية عاشت (الشام) بين دفاتره وفي عقله, إلا أنه آثر حياة الهدوء تلك. قال له كثير من الأصدقاء: إن تركك دمشق في زخم مسيرتك الإعلامية هو أمر غير مقبول..لكنه أصرّ ومضى..كنا نتسقط أخباره بين الحين والآخر..وقلما رأيناه في دمشق حين يزورها. فكان كما أتصوّر يحبّ أن ينفرد بها وحده ويعيد ذكرياته التي احتضنتها هذه المدينة الرائعة. لم تكن دمشق في قلب سهيل خليل وحده..بل في سلوك ووجدان كل من سكن فيها..إذ إن لها قدرة رائعة على الأسْر ما أظن مدينة غيرها تملكها, وعلى الأخصّ حاراتها القديمة وأوابدها الأقدم. أذكر مرة أنني وشقيقي جمال وبعض الأصدقاء كنّا نزور شقيقي (كمال) في جنيف..فدعانا إلى منطقة تسمى بين البحيرات (وهي ثلاث بحيرات عذبة) في المنطقة الحدودية لكل من سويسرا وألمانيا..وهنالك وجدنا جنّة لاتوصف وجمالاً طبيعياً ساحراً بأشجار سامقة عمرها مئات السنين والماء ينساب بين هذه البحيرات في منظر أخّاذ لايملك المرء تجاهه إلا الدهشة والإعجاب وروعة الاكتشاف. وعندما جلسنا في أحد المطاعم هناك..قال شقيقي كمال: مارأيك, هل هذه البقعة أجمل أو الشام هي الأجمل? فقلت على الفور: إن قطعة من سوق البزورية في دمشق أجمل وأحَبّ منها بكثير!!..فقال: أنتم من تحبون الشام لاتتغيّرون!! تلك هي الشام التي أحبها سهيل خليل وتزوّج من إحدى بناتها..لكنه تركها بحسرة ما أظنها فارقته طيلة حياته. وخاصة أنها منحته زوجة لا أحسن ولا أصبر ولا أوفى منها..ولذلك بادلته دمشق حبّاً بحب ووفاء بوفاء. في اللاذقية كنا نلتقي به حين نسافر إلى الساحل..أما بعد أن داهمته الأمراض دفعة واحدة..صرنا في دمشق نتسقط أخباره.. لكن لاجديد..فحاله كما هي, وصلته بالناس صارت قليلة. لله تلك الحيوية التي ما انقطعت يوماً..وتلك العلاقات الواسعة بالناس..وذلك الصخب الذي ماعرف شيئاً اسمه (الصعب) وذلك الإقبال على الحياة حتى لكأنها هاربة منه!! لله ذلك كلّه كيف صار وإلى أين وصل بسهيل خليل الإنسان الذي لم يتصوّر أحد أنه يمرض!! وعلى الرغم من صحته فقد استمرّ بالكتابة في جريدة الوحدة وغيرها من الصحف الدمشقية..فبقيت »سربيون) مهد ذكرياته..وعنها وعن ناسها وجبلها وأحراجها: كتب وكتب حتى لكأنّ ذكرياته فيها ستجعله هو الآخر ذكرى - وقد جعلته كذلك!! ويوم قرأنا على شريط أخبار تلفزيون دمشق: نبأ رحيله: كان زملاؤه في الإذاعة والتلفزيون ينعون ويؤبّنون زميلاً لهم لطالما كان محبوباً ومحترماً بينهم..وكان ذلك الخبر يعلن نهاية مسيرة لإنسان أحبّ الحياة وأحبّ ناسها وأحبّ عمله بينهم. و »سربيون) حين استقبلته وأودعته صدرها: ودّعت فيه إنساناً طالما أحبّها وطالما كان وفياً لها..واحتضنته من جديد بين أشجارها وهي تعرف أنه أولاً وأخيراً قد أعادته إليها وستخبّئه في حضنها طيلة الزمان! إلى أهله الصابرين والزميلة زوجته الصابرة الوفيّة: نقدم عزاءنا وألمنا بغيابه الأبديّ وبرحلته الطويلة. |
|