تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


كذبة التطبيع

دراسات
الأربعاء 23/1/2008
د. جهاد طاهر بكفلوني

يعتقد ساسة الكيان الصهيوني أن المواطن العربي سجين حالتين لا ثالث لهما, فهو إما أنه مخلوق بدماغ يفتقد قطعة أساسية

فيه تسمى (الذاكرة), أو أنه يملك هذه القطعة لكنها عانت منذ ولادته من تشوه خلقي جعلها عاجزة عن أداء مهماتها الأساسية في الحياة من حفظ واستعادة معلومات وقيام بعملية التذكر, بل ربما كان هؤلاء الساسة الألباء على قناعة أن هذه الذاكرة قادرة على القيام بعمل يسير سهل لا تحسن غير النسيان.‏

وعلى هذا الأساس ظل الساسة الإسرائيليون أسرى فكرة مبنية على رمل بحري وهش, توحي إليهم أن الحبر الذي يغسل بياض صفحات الاتفاقيات الموقعة مع هذا الجانب العربي أو ذاك, مجهز وبقدرة قادر وبسواده القاتم بقوة سحرية قادرة على غسل القلوب وتنقيتها من ذكريات الماضي, فتتجلى كأنها ثوب أبيض نقي لا تشوبه شائبة (قذارة) أو دنس. والمطلوب من المواطنين العرب أن يطلقوا زغاريد الفرح ابتهاجاً بميلاد عهد جديد من العلاقات الطبيعية بين العرب والإسرائيليين.‏

ولن نبدي استغرابنا ودهشتنا إذا طالب الإسرائيليون الجماهير العربية بتقديم اعتذار رسمي أو شعبي للإسرائيليين عن أخطاء الماضي, عندما نبذوهم وظلوا ينظرون إليهم على أنهم أعداء الأمس القريب أو البعيد.‏

لكن هؤلاء ينسون أو يتناسون أن الذاكرة العربية ذاكرة حية تنبض ألمعية وفطنة, ويعمل الإسرائيليون قصداً أو دون قصد على تنشيط هذه الذاكرة, لتظل تحمل عنهم أسوأ صور الوحشية والإجرام ومعاداة شعوب الأرض قاطبة.‏

ويدلي التاريخ بدلوه في هذا المجال, فيسارع إلى الذاكرة العربية ليرفدها بحقائق جديدة تضع بين يديها أدلة حية أنها لم تكن ظلومة ولا جهولة عندما حفرت في مساربها العميقة تلك الصورة القاتمة البغيضة عن كيان الوحشية والهمجية (إسرائيل).‏

وكانت الخدمة الأخيرة التي قدمها التاريخ متمثلة بكشف النقاب عن الجرائم التي ارتكبتها العصابات الإسرائيلية منذ ما قبل عام 1948 وكانت منطقة أم الرشراش المصرية على البحر الأحمر مسرحاً دامياً لهذه الجرائم.‏

فها هي مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية تعلن عن العثور على مقبرة جماعية تضم نحو (350) جثة لعرب دفنوا في هذه المقبرة.‏

أمام فضيحة مدوية من هذا العيار الثقيل ستحاول إسرائيل الصراخ بصوت عال منكرة ما حصل مدعية براءتها مما نسب إليها, لكن هيهات لن تنجح في طمس معالم الحقيقة, ولن تستطيع حجب الشمس بغربال, فرئيس الحركة الإسلامية في أراضي عام 1948 الشيخ (رائد صلاح) يؤكد أن اكتشاف الجثث جاء بعد أن نبشت بلدية المدينة المقبرة لدفن إسرائيليين فيها.‏

هذه الحادثة قدمت معلومات جديدة مفيدة عن العقلية الإسرائيلية الحاقدة على الحياة والموت والأديان السماوية, ولا بأس من توضيح طبيعة هذه العقلية.‏

الحقد على الحياة يتمثل في إعمال آلة القتل في الجسد الفلسطيني, ولا تقتصر الرغبة في القتل على قتل الإنسان, بل توغل بعيداً في التطرف لتمتد إلى الشجر والحجر وكل ما فيه نسمة حياة على الأرض الفلسطينية والعربية, وما يجري اليوم من تدمير شامل للحياة في فلسطين وما جرى قبل ذلك في لبنان خلال عدوان تموز عام 2006 شاهد إثبات يدين (إسرائيل) من رأسها إلى قدميها.‏

والحقد على الموت يظهر في صورته المخزية من خلال نبش المقابر وعدم مراعاة حرمة الموتى, وكأن إسرائيل تريد توجيه رسالة إلى العرب الأحياء منهم والأموات مفادها أنكم لن تنجوا من حقدي سواء أكنتم على ظهر الأرض أم في بطنها.‏

وللحديث عن علاقة (إسرائيل) بالأديان السماوية وما في هذه العلاقة من نظرة مشبعة بالبغضاء والكراهية محطات طويلة, لذلك لا يكتسب موضوع العثور على تلك الجثث العربية رداء من الغرابة عندما نعرف أن نسخاً من المصحف الشريف عثر عليها إلى جوار الجثث. وما دام الشيء بالشيء يذكر فالجنود الأميركيون الذين عمدوا إلى تدنيس نسخ من القرآن الكريم في سجن (غوانتانامو) هم بلا أدنى شك تلامذة الجنود الإسرائيليين الذي فعلوا ما فعلوا في أم الرشراش, ومن يدري فقد يفعل الجنود الأميركيون أفعالاً يتفوقون بها على الجنود الإسرائيليين, ولرب تلميذ فاق أستاذه.‏

والذاكرة العربية باتت تنتظر دائماً حلقات جديدة من مسلسل الجرائم الإسرائيلية, لأنها تعرف أن (إسرائيل) بساستها وقادتها شركة إنتاج تعيش على الدم العربي, وإذا توقف إنتاج هذا المسلسل اللامنتهي فإن الشركة تصبح على شفا حفرة من الإفلاس.‏

بعد هذا كله تأتي إسرائيل طالبة فتح صفحة جديدة من العلاقات مع أبناء الأمة العربية, بينما دباباتها تصول وتجول في الأراضي الفلسطينية معلنة أن شلال الدم الفلسطيني مستمر في الجريان حتى إشعار آخر.‏

وكيف لا تفعل ذلك وهي أسيرة كذبة كبيرة اسمها (التطبيع) وكأن هذا التطبيع قرار تتخذه الحكومة الإسرائيلية ثم لا تجد (الكنيست) حرجاً في إقراره!‏

الذاكرة العربية مصرة على استرجاع كل جريمة ارتكبتها إسرائيل, لكي تذكر أبناء الأمة العربية - وأنى لهم أن ينسوا- أن (إسرائيل) هي العدو الحقيقي الذي يتربص بهذه الأمة ولا يريد لها الخير بل يريد لها أن تظل متلقية الأوامر منه منفذة لها, وهذا أمر لن يكون مهما حرصت (إسرائيل) عليه.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية