|
كتب سيعترضون علينا, فالاخلاق عند هؤلاء حقل من حقول الفلسفة وحسب. وبالنسبة لنا, فإن اعتراضهم لا يعنينا, على الأقل, هنا والآن, فما يعنينا هو القرصنة التي يقوم بها علم النفس للاستيلاء على الأخلاق واغتصابها. ترد الأخلاق وكل سلوك أخلاقي إلى بواعث نفسية, وعلى العموم تلك سمة العلم في عصرنا, فقد اصبح أشبه بالقرصان الذي ينهب ما لدى الآخرين, وإذا كان القرصان قد ترسخ في المخيلة على أنه شخص فاقد لإحدى عينيه فإن العلم اليوم هو كذلك, بعين واحدة. أولى بنا إذن أن نتحدث عن كتاب (ايريك فروم) الذي يحمل عنوان (الإنسان من أجل ذاته) باعتباره نوعاً من القرصنة, دون أن تأخذنا سطوة اسمه فيحولنا إلى قراصنة نشاركه عملية اختطاف الأخلاق من حضن الفلسفة, وهذا ما يقوم به (فروم) إنه يختطف الأخلاق تاركاً الفلسفة كسفينة بلا شراع لتواجه مصيراً مأساوياً, فبدون الأشرعة لا يكون أمام السفن إلا الغرق أو التحطم على الشواطىء الصخرية بأحسن الأحوال. بالتأكيد, ومن وجهة نظر علم النفس, فإن الكثير من التحليلات التي يقدمها (فروم) للمقولات الأخلاقية والفلسفات الاخلاقية, تتمتع بقدر من الصحة إلا أنها تظل تحليلات (قرصان) يرى بعين واحدة, فالسلوك الأخلاقي والأخلاق عموماً تبقى أوسع من أن تفسر بالبواعث النفسية. وقد احتاج البشر إلى تاريخ طويل مليء بالديانات والعبادات والطقوس, تاريخ من الممارسات الغريبة لتجنب الشر وتحقيق الخير, قبل أن يكتشفوا أنفسهم بوصفهم كائنات أخلاقية, وقبل أن يتم اعتبار تلك العقائد والممارسات والطقوس بمثابتها أخلاقاً. وعندما استطاعت البشرية أن تجمل كل ذلك التاريخ وتكثفه توصلت إلى إيجاد الفلسفة, ما يشير إلى أن الفلسفة جاءت كابن للاخلاق وعندما تمكنت من التوالد الذاتي عادت لتنجب الأخلاق, أو علم الأخلاق, وبهذا المعنى تكون الفلسفة(ابنة ولدها ووالدة أبيها) وبفصل الأخلاق عن الفلسفة يغدو كل منها لقيطاً, فالفلسفة تفقد اصلها الاخلاقي فيما تفقد الاخلاق أصلها الفلسفي. وهذا ما يقوم به علم النفس, الذي كان لوقت قريب جزءاً من الفلسفة وواحداً من ابنائها, ها هو يتصرف كولد ضال, معتدياً على الأخلاق الذي هو في الوقت نفسه اعتداء على الفلسفة, وهو اعتداء سافر يحاول فيه علم النفس الحلول محل الفلسفة والأخلاق معاً. وهو ما يبدو طموحاً صعب المنال, إن لم يكن مستحيلاً, فلا يمكن الركون إلى أن للأخلاق منبعاً نفسياً يمكن ضبطه وتأطيره, كما لا يمكن النظر إلى علم النفس بأنه قادر على الحلول محل الأخلاق. فسواء نظرنا إلى الضمير على أنه (أنا أعلى) كما رأى فرويد أو قوة نفسية تسلطية كما يرى فروم, فإنه يبقى (أي ضمير)مقولة أخلاقية أكثر منه مقولة نفسية. وإذا كان ضغط الضمير سيؤدي إلى وساوس قهرية بحسب فرويد, أو إلى تربية تنتعش فيها الذنوب بحسب فروم, فإن الميدان الحقيقي للضمير هو الأخلاق وليس علم النفس. ففي الوقت نفسه الذي يؤدي فيه الضمير إلى العصاب والأمراض النفسية الأخرى كما يرى علم النفس, فإن هذا الضمير يؤدي في مضمار الأخلاق إلى فكرة (الواجب), وإذا كان الضمير كما يقتنع فرويد يجعل الناس جبناء, فإنه هو نفسه الذي يجعلهم شجعاناً يقومون بالتضحيات, بالإيثار, بالموت لأجل الآخرين, لا لشيء, بل فقط لأجل الواجب, الواجب الذي يجعلنا نقوم بما نقوم, ونفعل اخلاقياً ما نفعل دون مقابل, الواجب منبع الحب المجاني وغير المأجور, منبع اعتناق الأهداف الكبيرة والدفاع عنها بعيداً عن المنافع والملذات المرجوة. الضمير والواجب, ركنا الأخلاق, وعلى علم النفس أن يقرأهما كقبطان ينظر بكلتا عينيه, وفي شتى الاتجاهات, لا كقرصان ينظر بعين واحدة, كقبطان يقود سفينته مهتدياً بالنجوم وقوانين الملاحة, لا كقرصان يقتحم سفن الآخرين ليغتصب ما لديهم. وهذا هو الفرق بين الفلسفة الأخلاقية وعلم النفس في تناولهما للأخلاق, فالأولى تقول كل النظريات الممكنة لتفسير السلوك الأخلاقي,بينما يستبعد علم النفس كل النظريات, طارحاً نفسه كنظرية قادرة على تفسير كل شيء ومدعياً انتصارات هي أقرب للهزائم. |
|