تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أضواء على المشهد العرفاني.. عند الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي

آراء
الأربعاء 23/1/2008
سعد محمد اليوسف

محي الدين بن عربي شخصية صوفية, بل شيخ مشايخ الصوفية وإمام الطرق الإسلامية في عصره. ولد بمرسيه,

وانتقل إلى أشبيلية. حدثته نفسه بالزهد والانقطاع عن الدنيا قبل أن يرتحل إلى الشرق ويسافر إلى مصر وسورية, ليستقر في دمشق قبل وفاته عام (1243)م, ويدفن في مدفن بني زنكي في جبل قاسيون.‏

ترك إرثاً معرفياً ثميناً, تضاربت حوله آراء الباحثين والدارسين, فمن قائل إن ما قدمه فلسفة خالصة, ومن قائل إن الفلسفة تصغر كثيراً أمام نتاجه الغزير الذي يمكن متابعة ارتقاء أسفاره من الفلسفة إلى التصوف وصولاً إلى العرفان بشكله التكاملي, العرفان الذي يمثل أعلى درجات الصوفية الإسلامية وأعظم حالة من التواصل بين روح العبد وبين الذوبان في حب الله.‏

تعلم ابن عربي كثيراً, وأخذ من مشايخ الطرق الصوفية معارفه العديدة, وقرأ على آخرين غيرهم, ما أكسبه ثقافة موسوعية نرى أثرها واضحاً فيما وصل إلينا من آثاره. التي ما تبقى منها يدل على حياة فكرية خصبة, وفعالية وافرة في التأليف. حيث يشار إلى أن تآلفيه تجاوزت الأربعمئة كتاب, غير أن المحققين والدارسين قالوا إنه ألف أكثر من مئتي كتاب كان أهمها الفتوحات المكية وفصوص الحكمة.‏

هذا الثراء في التأليف باعد - لحين - بين ابن عربي ومعاصريه, وكان من أثر هذا التباعد أن ارتاب البعض به, فتأولوا عليه الأقاويل وشكوا في عقيدته, ورموه بالكفر والزندقة!!‏

فلماذا إذاً كفره البعض? بينما يصفه آخرون بالشيخ الأكبر وقطب الأقطاب وولي الأولياء?‏

إن هذا السؤال يحيلنا إلى البعد الصوفي في شخصيته, لنقف على مشهد الفيض العرفاني الذي يعكس تملكه لسؤال المعنى, والذي لا يكون إلا فعلاً أعمق للكشف عن الأشكال التي تتمظهر بها البنية المعرفية التي يعيش في إطارها الإنسان. هذا من جهة, ومن جهة ثانية فإن سؤال المعنى إذا طرحه لا يطرحه إلا من موقع معين في مرحلة الوصول إلى الله. إنه موقف العارف بمشهد من الحق الذي لا يكون إلا إذا (بدا الشاهد وفني الشواهد). حيث يلملم الحقيقة والتخصيص والولاية التي تعبر كلها عن إعادة الفهم الكلي للأشياء والمعاني عبر الممارسة الخطابية فيخاطب الله ويبادله الخطاب, ويتحدث باسمه بعد مرحلة التحقيق, وهو بذلك لا يقدم سردية كاملة لقصة الرحلة أو العروج إلى الله بل يعكس تموجات عقله في وجدانه في صورة سرد جزئية للخطاب المتبادل يعبر فيه الصمت بوابة الأنا التي تذوب في مكان طقسي, حيث توشم بلاغة الأسلوب في المتلقي غواية استمرارية الامتداد والعودة إلى تبادل الرؤى عبر التلاشي, تلاشي الشواهد أمام الشاهد. فتصبح المخاطبات وكأنها تعبير عن تضخم نص مسكوت عنه هو نص الرحلة, ما دام أنه لا يتم للصوفي في وصول وتحقيق ولا حتى مخاطبة إلا بعد قطع الطريق, وحدوث التحول, ولذلك فإن متلقي المخاطبات لا يتفاعل معها إلا ومشروع الرحلة في ذهنه لأنه المشروع المستعمل للوصول إلى هذه الوضعيات لوضعية العارف الذي لا علاقة له بغير الحق.‏

وفق ما تقدم نجد أن العرفان هو رأس هرم الصوفية. ففي التاريخ الإسلامي أطلق اسم صوفي على الكثير من الشخصيات الإسلامية التي عرفت في هذا الإطار أو في هذه الدائرة ولكن اسم العارف بالله لم يطلق على جميع هؤلاء الصوفيين. لأنه بالعرفان يصل خواص الخاصة إلى حالات من الوجد لا يصلها الجميع.‏

فها نحن مع ابن عربي يعرض صورة الخطاب المتبادل في المشهد العرفاني فيقول على لسان العرش (أقسم بعلي عزته وقوي قدرته لقد خلقني وفي بحار أحاديثه غرقني وفي بيداء أبديته حيرني. تارة يطلع من مطالع أبديته فينعشني, وتارة يدنيني من مواقف قربة فيؤنسني. وتارة يحتجب بحجاب عزته فيوحشني. وتارة يناجيني بمناجاة لطفه فيطربني. وتارة يواصلني بكاسات حبه فيسكرني. وكلما استعذبت من عربدة سكري قال لسان أحاديثه (لن تراني) فذبت في هيبته فرقاً, وتمزقت في محبته قلقاً, وصعقت عند تجلي عظمته كما خر موسى صعقاً. فلما أفقت من سكرة وجدي به قيل لي أيها العاشق: هذا جمال قد صناه وحسن قد حجبناه فلا ينظره إلا حبيباً (اصطفيناه).‏

هذا أحد مباهج المشهد العرفاني. فهل تجاريه الفلسفة? أو تصل مقامه الصوفية?‏

إن العرفان عند ابن عربي لا يقف عند حد ارتجاعه إلى ثوابت مبدئية تحفظ وشائجية الخطاب من تسطح المفاهيم وتنميط الدلائل طبقاً لمعادلات مواقعية تقلص المسافة بين القول والفعل, وتعكس تالياً التماهي بين المرسل (الله) وبين المتلقي (العارف) بل ينفتح المشهد العرفاني على آفاق أرحب ومعارج روحية أرقى وأسفار نورانية أسمى وأكمل, تعزز صورته التكاملية من خلال محاولة تضمينه لعلاقة الإنسان بخالقه, والمستويات التي يمكن أن تتحقق بها تلك العلاقة وتتكامل مع مراعاة نظام المعرفة في المحيط الإسلامي المتماسك بالكون البرهاني. متجاوزاً مطب الحلاج في تأليه الإنسان. ففي تناوله للعلاقة بين الإنسان وخالقه فرق بين إله المعتقدات وإله العارفين حيث قال: (إن إله المعتقدات من خلق الإنسان وتطويره كل معتقد بحسب استعداده وحظه في العلم والرقي الروحي. أما إله العرفانيين الذي هو إلهه فلا صورة تحصره ولا عقل يحده أو يقيده لأنه المعبود على الحقيقة في كل ما يعبد, والمحبوب على الحقيقة في كل ما يحب. يعبد المعتقد إلهه الخاص الذي خلقه في معتقده ويجحد غيره من آلهة الاعتقادات, ويثني على الحق وما درى أنه يثني على نفسه, لأن إله المعتقد من صنعه, والثناء على الصنعة ثناء على الصانع).‏

وكما قاده هذا التمايز إلى اعتبار أن المعبود هو الجوهر الأزلي القديم المقوم لجميع صور الوجود. والعابد هو الصورة المتقومة بهذا الجوهر, فكل صورة من الصور ناطقة بألوهية الحق فقد أتى عليه قراءات وتفسيرات من معاصريه ومن الباحثين والدارسين لفكره لاحقاً تختلف اختلافاً شديداً عما يراه ابن عربي في ذلك. حيث فهم الكثيرون ما طرحه عن وحدة الوجود أنه جعل ذات الإنسان هي ذات الله وذات الله هي ذات الإنسان. لكن ابن عربي في عرفانه يرى غير ذلك تماماً, فيرى بعضهم أن ابن عربي يدعو إلى الاتحادية, أي وجود المحدث هو عين وجود القديم. بمعنى أنه جعل الله تعالى هو عين الموجودات وحقيقة الكائنات وأنه لا وجود لغيره. فهل هذا ما يعنيه ابن عربي في عرفانه? إن وقفة سريعة عند الذي قال توضح لنا الصورة الحقيقية لعرفانه. حيث يقول: اعلم أن العالم عبارة عن كل ما سوى الله. وليس إلا الممكنات سواء وجدت أم لم توجد, فإنها بذاتها علامة على علمنا بواجب الوجود لذاته وهو الله تعالى إلى أن قال: (فالعالم إن نظرت حقيقته إنما هو عرض زائل) وهو كقوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه) وتتضح الصورة العرفانية في قول رسول الله ] أصدق بيت قالته العرب قول لبيد (ألا كل شيء ما خلا باطل). يظهر من ذلك أن العرفان هو وجدان دائم للحق حددته الرؤى القائلة: بأن كل شيء مالت إليه النفس دون الحق واجب إتلافه. وهنا تقتصر علاقة العارف على الحق. فليس للعارف علاقة بغير الحق. لأن المعرفة أولها الله وآخرها ما لا نهاية له (فالعارف لا يكون لغيره لاحظاً ولا بكلام غيره حافظاً ولا يرى لنفسه غير الله حافظاً).‏

ولعل أكثر ما اتهم به ابن عربي بعد الاتهام بالحلولية ما صدر عن بعض علماء المسلمين الذين كان لهم موقف عدائي للتصوف عامة والعرفان على وجه الخصوص قولهم: إن ابن عربي وضع نفسه فوق مرتبة الأنبياء, بمعنى أنه فوق رسالاتهم وفوق ما أوحي إليهم. فقد نسبوا إليه القول: إن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله. فخالف بذلك الشرع والعقل!!‏

والواقع فإن ما صدر عن ابن عربي في الفتوحات المكية بشأن الأنبياء لا يوجد فيه ما اتهمه به معارضوه. إذ يقول: (إن الله اصطفى من كل جنس نوعاً ومن كل نوع شخصاً واختاره عناية منه بذلك المختار. فاختار من النوع الإنساني المؤمنين واختار من المؤمنين الأولياء واختار من الأولياء الأنبياء واختار من الأنبياء الرسل وفضل الرسل بعضهم على بعض) وهنا يتضح أن الأنبياء في مرتبة أعلى من الأولياء.‏

وقد أثيرت أسئلة كثيرة حول ما قدمه في فتوحاته المكية من رؤى تتعلق بانتظار خليفة لله يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن امتلأت جوراً وظلماً حيث قال: (أعلم أن لله خليفة يخرج وقد امتلأت الأرض جوراً وظلماً, فيملؤها قسطاً وعدلاً, ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد, طول الله ذلك اليوم, حتى يجيء هذا الخليفة من عترة الرسول الكريم).‏

خلاصة القول: إن ما قدمه ابن عربي هو عرفان بشكله التكاملي, وهو ما تقف الفلسفة عاجزة عن أن تلفه تحت جناحيها وكذلك التصوف فإن جل ما يفعله هو أن يحبو حبواً لتفهم معارجه الروحية وأسفار عالمه النورية. ولذلك فإن الولوج إلى آفاق العرفان وفضاءاته عند ابن عربي يحتاج إلى أن يكون من يريد ذلك على درجة عالية من التذوق الصوفي والسلوك العرفاني, تذوق قادر على إزاحة الثوابت في لحظات الكشف والرؤية.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية