|
آراء وشعرت بعد الإجابة بفجيعة اختلاف اللغة بين البشر, لأن الاتصال الروحي العميق ينعدم إذا لم تصل تلك الهديبات الصغيرة الشبيهة بمخمل أجنحة الفراشات, التي تحملها الكلمات, إلى مسامات الوعي, فقد كنت ألمانياً بالمصادفة, وكان محتملاً أن تكون انكليزياً أو فرنسياً, أو أي واحد من أوروبا المتحضرة, التي تتباهى باكتمال عقلها وإنتاجها للمعرفة والفلسفة, وتصنيف شعوب الأرض وأعراقها ودياناتها, ومعتقداتها! قلت لي يومها ظننتك سورية, وصعب علي أن أشرح لك, أننا لانتمتع برفاهية صفاء الدم والأعراق الذي تتغنون به, فقد يكون جدي الأول قدم من السويس, مع حملة ابراهيم باشا, واستقر في سورية, وقد طاب له المقام في القلمون, بين أهله الذين يتكلمون اللغة ذاتها, ويفهمون أعمق إيحاءاتها, وهي لغة تشكل روح هذه الأرض سواء أمحلت أو أنبتت, تصحرت أو أمرعت! وبقي من جدي ذاك, كنيتي الطريفة التي تشبه الغناء أو زقزقة العصافير! ولابد أن عماً لي أقام في فلسطين, حين سافر إلى عكا, في تجارة, وترك وراءه أقارب ما زالوا حتى اليوم, يتنقلون بين شمال مصر وصعيدها, لأنني حين ألتقي بعض أحفاد هذه العائلة وقد تنوعت ملامحهم واختلفت أعمارهم, لكن لونهم ما زال أسمر وعيونهم عسلية, يشوبني فرح لا تفسير له إلا تسمية علماء النفس باللا شعور الجمعي, فنحن بلا شك عشنا حياة واحدة وأكلنا الرغيف نفسه بصرف النظر عن خبزه في جمر التنور أو الطابون أو الفرن, وسرينا تحت درب التبانة, وسهرنا حتى هبت ريح الصبا محملة برائحة الشيح, ورنت عيوننا إلى الهلال نفسه الذي يؤذن بحلول رمضان وقدوم العيد! أنت يا صديقي الألماني مثقف مادي لذلك لن تفهم ما معنى التناسخ الروحي, ولن تصل إليك فكرتي عن الحيوات المتكررة التي عشتها متنقلة بين بلاد الشام وبر مصر, بعبور أرواح أهلي في هذه الأرض الجميلة التي تصرون أنتم الأوروبيون, وأحفادكم المطرودون إلى القارة الأميركية على صبغها بالدم, وكما فعلتم بإبادة شعب مسالم بأكمله لتبنوا فوق جماجمه ناطحات سحابكم, تواصلون نسخ التجربة في أرضنا, ولعلك لن تفهم بدقة معاني خطابي هذا لنفس السبب المؤلم الذي حال دون تواصلنا حين التقينا وتحاورنا (أعني حاجز اللغة) لكنني مضطرة أن أقول لك إن أحزاني نهضت والشجرة الهائلة التي سقتها دموع جداتي منذ بدأ سجل الشهداء يتضخم ويعلو كمعجزة الأهرامات, حين كشف مقاولكم الاستعماري, الاستيطاني الجديد مقبرة أم الرشراش, وهذا المقاول, والوكيل المدلل في أدبياتكم, الموصوف بالحضارة والتفوق والمعجزة, لعلمك دفن رجالاً بملابسهم وأحذيتهم وأسلحتهم (التي يحق لهم أن يدافعوا بها عن أنفسهم وأرضهم) وكتابهم المقدس, ولا شك أنهم قتلوا غيلة ومن الظهر بالرصاص والسكاكين, لأن الحبال التي عثر عليها, كانت مسترسلة, أي بلا عقد. الجلاد, بارد الدم والضمير, الذي كلفتموه بانتزاع الأرض ودفن أهلها الأحياء فيها, يدعي أنه صاحب ذاكرة قوية متشبثة بالمحرقة وحماية الخالق لشعبه المختار, ويختلق كل يوم تفصيلة مفترضة ليقنع كتبة تاريخكم بأنه ينتمي إلى أرضنا, هذا الجلاد خانته ذاكرته هذه المرة (كما نرجو أن يخونه حلفاؤه من أشقائنا) ففتح الأرض ليقبر موتاه فإذ بالشهداء ينهضون, وإذ بأحشائها تعيد ولادة أبنائها الصامتين منذ دهور. وإذ بي أستعيد مفكرة عمي المفقودة التي كتب فيها أن المغتصب يأرق من ضحاياه الأحياء, ونحن سنؤرقه أمواتاً!! لقد بعث عمي المفقود شهيداً, فلم تبكني ذكراه, كما كانت أمي تبكي خالي, الذي جند قسراً في الجيش الفرنسي إبان الاحتلال, حتى نهاية حياتها, لكن ما أبكاني دماً بحق, ذلك المسؤول العربي الكبير الذي تنصّل من أم الرشراش (التي أصبحت إيلات) وقال إنها ألحقت بفلسطين في خرائط عام ,1922 متجاهلاً أن الخرائط لا يرسمها الغرباء, بل الدم واللغة والذكريات. طاب ثراكم يا أهلي الراقدين في أم الرشراش لأنكم صنعتم المقاومة على طريقتكم! |
|